لطالما كانت مدينة صنعاء القديمة، مقصد السياح من مختلف البلدان، ومحل اهتمام الباحثين والمؤرخين والدارسين، وملهمة التشكيليين والمصوّرين والشعراء والفنانين الذين تغنّوا بجمالها الآسر ومظهرها البديع كواحدة من أجمل وأقدم مدن العالم، إن لم تكن أقدم المدن القائمة، والتي لا تزال تختزل في جنبات بناياتها العتيقة فنّاً معمارياً يوثّق مراحل مزدهرة من تاريخ اليمن القديم، كما تزخر بعبق التراث الإسلامي الذي كان في فترة من فترات الزمن البعيد مركزاً هاماً لنشر الإسلام، وأبقاها إلى الحاضر محتفظة بتراث ديني وتاريخي وسياسي وثقافي وفني واجتماعي يزيدها أهمية ومكانة وجمالًا، يتطلب بقاؤه الكثير من الاهتمام.
#عبد_القادر_عثمان
لكن صنعاء التي كانت، هي اليوم منسيةً خلف ركام حربٍ تلتهم اليمن منذ سنواتٍ خمسٍ، وتستمر في تبديد كل ملامح جمالها، وتجريف تاريخها بما يحمله من قيمة تراثية ومكانة أثرية لحضارات تمتد لآلاف السنين، كما أنها مرمية في هامش اهتمام السلطة المنشغلة بالحرب، وضحية لإهمال أبنائها البائسين وجشع التجّار الطامحين لتحويلها إلى سوق تجاري حديث وتشويه الصور الجمالية المتجددة للمدينة والباعثة على الدهشة، علاوة على أنها “في الآونة الأخيرة باتت مهددة بالانهيار والسقوط لأسباب عديدة، منها الأمطار الغزيرة طوال فصل الصيف، بما يتسبب بتهدم الكثير من البنايات التاريخية”، يقول أحد سكان المدينة(أربعيني).
يردف أحمد العمري في حديث لـ “الثورة”: “المدينة تتآكل يوماً بعد آخر، والسلطات تكتفي بالاستنكار. ثمة كارثة تحلّ بالمدينة لكن أحداً ممن تقع على عاتقهم مهمة الحماية لم يلتفت لها! كأن الأمر لا يعني أحد”. وإلى ذلك تعاني مدينة الفصول الأربعة من تلف شبكتي المياه العذبة والصرف الصحي.
تهديد الأمطار
منذ نحو شهرين، تشهد صنعاء العاصمة هطول أمطار تتراوح بين وابلٍ وطلّ، ومؤخراً تحوّلت السيول إلى “فيضان صغير” محدود الأثر؛ لميزة تمتلكها صنعاء في تصريف المياه المتدفقة من وديان الجبال المحيطة بها ومن كل مناطق المدينة الكبيرة. تلك الميزة تتمثل في “السايلة” (مجرى السيل) التي تشق صدر المدينة من الجنوب إلى الشمال باتجاه المطار والأراضي الزراعية في الروضة، وتعمل على تصريف السيل خلال ساعات، لتحول دون حدوث أي كارثة بالمدينة.
خلال ذلك، كانت المدينة القديمة، والتي تسمى بمدينة سام، نسبة إلى المؤسس الأول سام بن نوح المتوفي سنة 1603 ق.م، والذي بناها عقب حادثة الطوفان، هي الأكثر تأثراً، فقد تهدمت فيها بعض البنايات التاريخية المأهولة –كلياً وأجزاء من البعض الآخر – وغدت غالبية المنازل الواقعة بالقرب من السايلة مهددة بالسقوط من جراء التدفق اليومي الهائل للمياه، بينما “تحتضن المدينة في حواريها منازلَ تهدد سكانها بالانهيار على رؤوسهم دون قدرتهم على فعل شيء يحد من ذلك النزيف” على حد تعبير العمري.
تضم صنعاء القديمة 12 ألف مسكن داخل سور ضخم مبني من اللّبن وله سبعة أبواب تهالكت منذ ستينيات القرن الماضي ولم يتبق منها سوى أكبرها وأشهرها باب اليمن جنوباً، وبقايا أطلال باب البلقة في الجنوب الغربي وباب شعوب شمال المدينة، كما تضم داخل سورها، الذي بات مهدداً هو الآخر بالانهيار، 106 مسجداً أكبرها الجامع الكبير الذي بني في السنة السادسة للهجرة (627 ميلادية)، ونحو 20 حماماً تراثياً، و109 بستاناً لم يتبق منها سوى 49 “مقشامة” كما يسميها أصحاب المدينة.
ملامح تاريخية
كلّ شيء في المدينة يحكي قصّة لا نهاية لجمالها ولا حدود لمحسّناتها الحيّة؛ بدءً من أسواقها المتخصصة؛ فبها سوق للزبيب وآخر للتوابل وثالث للفخار ورابع للفضة…وهكذا رسم القدامى فيها 49 سوقاً، بقي منها 30 سوقاً – على عكس الأسواق الحديثة التي تتداخل فيها السلع المختلفة بشكل مزعج – ومروراً بسماسرها (مبانٍ ضخمة، تستخدم ساحاتها وكالات ومحالّ لبيع السلع وخزنها، وطوابقها العليا فنادق واستراحات لإيواء الزوار) وحوانيتها العتيقة، والذكريات التي تخلدها تلك الأدراج الصغيرة في ذهن الزائر، ووصولاً إلى منازلها المزركشة بلون الجص الأبيض وتعدد الأشكال الهندسية للقمريات الملونة (قطع نصف دائرية مصنوعة من الجص المرصع بالزجاج الملون) أعلى نوافذ تلك القصور المبنية بالآجر البنّي والتي تحيط بالبساتين والمتنفّسات وتنتظم بشكل حضاري دقيق، علاوة على مآذن وقباب مساجدها متعددة الأحجام والأشكال والنقوش، بالإضافة إلى معاصرها وحمّاماتها البخاريّة التي ظلت صامدة عشرات القرون.
كل ذلك الجمال الذي تحتفظ به مدينة “صنعان”، كما جاءت تسميتها في كتب التاريخ أو “آزال”، معرّض اليوم للتلف؛ فمن بين “ألفيّ منزل قامت “الهيئة العامة للحفاظ على المدن التاريخية” بمسحها في المدينة عام 2017، تبيّن أن نحو 1965 بحاجة إلى ترميم: منها 1460 منزلاً متضرراً بشكل خفيف، و376 أضرارها متوسطة، بينما 86 منها أضرارها بالغة و43 مدمّرة بشكل كامل” كما يحكي لـ “الثورة” مدير مكتب الهيئة في المدينة، فارس العديل، ويردف أن “الأمطار الأخيرة أدت إلى تهدّم ما لا يقل عن 80 مسكناً تاريخياً، أصحابها غير قادرين على إعادة تأهيلها، والهيئة أيضاً غير قادرة؛ فلا ميزانية لها في الظروف الحالية، والسلطة المحلية في صنعاء تتعمّد تجاهل هذه الكارثة، بينما المنظمات الدولية المهتمة بالتراث تتذرع بأنها لا تتعامل إلا مع ما تسميها “السلطة الشرعية” (حكومة المرتزقة) التي تقيم في الرياض عاصمة العدوان، وهذا كله تدفع ثمنه صنعاء وحدها”.
يدٌ مغلولة
ليست مأساة صنعاء القديمة طارئة، كما قد يصوّرها البعض، بل هي معاناة ترافق المدينة منذ عقود، على الرغم من أنها اليوم تتعرض للإهمال الكبير من قبل الجهات المسؤولة، بعد أن تعرضت خلال الخمس سنوات الماضية لقصف مباشر من طائرات العدوان، ما أدى إلى تهدّم وتضرّر أحياءً سكنية بكاملها، بيد أن المشكلة “أزلية” كما يصفها عبد الله الصماط، المدير التنفيذي لـ “مؤسسة عرش بلقيس للتنمية والسياحة والتراث”، مضيفاً في حديث إلى “الثورة”: “تعاقبت عليها حكومات وإدارات وشخصيات مسؤولة وتحاشاها الجميع أو حاولوا طمس قضيتها؛ لفداحة أضرارها وعجزهم عن إيجاد حلول جذرية ونهائية”.
يلفت الصماط إلى أن “الجهات المعنية والتي يقع الموضوع على عاتقها لا تقدّم دراسات أو حلولًا كما لا تدير أزماتها بشكل مدروس، بل تعتمد العشوائية، وتقتصر الحلول على أعمال لا تتجاوز القشر الخارجية للمشكلة”، ويشير إلى أن المؤسسة “نفذت مع منظمات المجتمع المدني وكل محبي ومهتمي التراث مئات الوقفات الاحتجاجية، وناقشت القضية مع قيادات كبرى في السلطة، بل قدمت شكاوى المواطنين ودراسات المهندسين إلى مجلس النواب، لكن لا جديد في الأمر”.
يعود المهندس العديل ليقول إن “للقصف أثر في خلخلة البنايات، وهذا سهّل على الأمطار مهمة التهديم”، بيد أنه يؤكد أن “صنعاء بحاجة ماسة إلى ترميم مبانيها وتبديل شبكتي تغذية المياه العذبة والصرف الصحي وإصلاح الرصف الحجري داخل الأحياء وصيانة شبكتي الكهرباء والاتصالات السلكية، وكل ذلك قدّمت به الهيئة دراسات إلى المنظمات بتكلفة تزيد عن 14 مليون دولار، لكن في الوقت الحالي، ونظراً لعدم اكتراث المنظمات بالمدينة فإن السلطة المحلية هي المسؤولة عن حماية المدينة من الاندثار”.
يزيد على ذلك سارداً: “المدينة تدر إلى خزينة السلطة المحلية ملايين الريالات بشكل مستمر، وهي اليوم بحاجة إلى إيراداتها لبقائها، فإما أن تأخذ السلطة المحلية المسؤولية من على عاتق الهيئة وتبقى مهمتنا إشرافية وتقوم بحماية المدينة وإصلاحها، أو عليها تحويل الإيرادات إلى خزينة الهيئة ونحن قادرون على تحويل صنعاء خلال أربع سنوات إلى جوهرة أثرية”، ويستطرد: “أما أن تترك المدينة بهذا الشكل فكل الاحتمالات السيئة تنتظرها”.
على شفى الانهيار
تشققت البنايات من جراء الحرب، وتشوهت صنعاء نتيجة البناء الحديث الذي خاف الشاعر الدكتور عبد العزيز المقالح أواخر سبعينيات القرن الماضي من تمدده خارج أسوار المدينة التي قال عنها: “كانتِ امرأةً هبطَتْ في ثيابِ الندى ثم صارت مدينةْ”، وقد بات اليوم بداخلها، يلتهم منازلها التاريخية مستبدلاً المباني الإسمنتية الباهتة بما ترك الأولون من آثارهم في ملامحها المشرقة، من أجل تحقيق أغراض تجارية واستغلال لمساحتها الثمينة، دون اهتمام بالترميم بالمواد الطينية التي تميّز بها طابع المدينة التاريخية، وإلى جانب ذلك “تؤثّر المياه المتسربة من شبكة التغذية التالفة على أساسات المباني التي هي في الأساس رواسب طينية متهالكة، ما يؤدي إلى سرعة انهيارها، كما يشكّل هذا مع ما تحدثه شبكة الصرف الصحي التالفة أيضاً من دمار خطراً يحوّل المدينة إلى تجويف أرضي تهدده الملوحة بالانهيار” بحسب إفادة العديل.
وتعاني صنعاء اليوم من “احتلال التجّار الذين يغرون سكانها البسطاء بمبالغ خيالية ويبتاعونها منهم ليحوّلوها إلى مخازن ومتاجر لبيع الأقمشة بالجملة، يؤدي بها ذلك إلى الانهيار السريع” على حد قول العديل.
كما تعاني أيضاً من عدوانية الحرب وعبثية الحداثة التي كادت تخفي ألق المدينة التي احتضنت جميع العصور واحتفظت بفنونها المعمارية رغم التحديات التي واجهتها في فترات الحروب التي شهدتها اليمن على مر التاريخ، وظلت صامدة في وجه الزمن، تفاجئه بجمالها كلما باشرها بحداثته، وتدهشه بلونها المتجدد كلما أتت أيامه بنوع جديد من أنواع المعمار؛ فهي من حيث البناء تخطيطاً وتنظيماً متحفاً مفتوحاً يرسم أبعاد الدهشة لدى كل زائريها ويحوي عراقة الماضي وأصالة الحاضر وتتجلى فيه البساطة كسرٍ من أسرار جمال هذه المدينة البديعة.
جمال متجدد
تتربع صنعاء القديمة على مرتفعٍ ترابي غير ملحوظ وسط وادٍ جبلي هو الأعلى في جزيرة العرب، مكّنها ذلك من الحفاظ على بناياتها من السيول الجارفة التي تجتاح الوادي صيفاً، قادمة من جبال خولان وسنحان وعيبان، وكذا “غيمان” الذي سمّاه الأحباش “نقم” خلال غزوهم اليمن (525 – 575 م)؛ لأن المقاومة التي احتضنتها كهوفه الوعرة كانت الشرارة التي انتهت بهزيمتهم ورحيلهم. وتتقسم جغرافياً إلى ثلاثة أقسام يفصل بينها حاجز طيني وسايلة، ولكل قسم طابع خاص ونمط متميّز؛ فالقسم الشرقي من المدينة هو الأكبر، ويضم الأحياء القديمة وسوق الملح الشهير والمساجد القديمة، ويتجلى جمال مبانيه من خلال فخامة الزخرفة وتعدد الطوابق بين ثلاثة وثمانية أدوار، بينما يتميز وسط المدينة بالحدائق وقصور الأئمة من بيت المتوكل والأمراء والحاشية وحتى المنازل ذات الطابع التركي، ويضم القسم الثالث مدينة اليهود وتضم القاع وباب السباح، ويفصل بينها وبين القسم الأوسط سور طيني ذو بابين يغلقان عند الغروب حتى مطلع الفجر.
في العام 1986 ضمت منظمة الأمم المتحدة للثقافة والتعليم (يونيسكو) صنعاء ضمن قائمة التراث العالمي، لكنها خلال الخمس سنوات الماضية وضعتها، أكثر من مرة، على قائمة التراث المهدد بالخطر؛ نتيجة الانتهاكات الجسيمة الممارسة بحق المدينة ونادت بمأساتها بغية تجنيبها ويلات الحرب والإهمال لكن دون أثر، ودون أي مبادرة لإنقاذ المدينة.
وتحتاج عاصمة سام إلى من يقوم على حمايتها؛ لإيقاف العبث الذي يتفاقم يومًا بعد آخر. رغم ذلك، تبقى – كما يصوّرها المقالح في ديوانه الذي اسماه باسمها: “سيدة لا تبيح السفورْ/ وترفض أن تقرأ الشمُس/ أن يقرأ الليلُ أوراقها/ أو يلامس سر الطلاسم في اللوحة الغامضةْ”، وتبقى الأبجدية حائرة؛ كيف تنصفها، وتبقى هي مهددة بالانهيار.