خيم الصمت والهدوء على القطاع الثقافي وأنشطته الأشهر القليلة الماضية، تأثراً بقرارات الإغلاق وتدابير الصحة والوقاية التي اتخذتها السلطات الحكومية في أغلب دول العالم تجنباً لتفشي أكثر فداحة لجائحة فيروس كورونا.
وبحلول مارس/آذار أغلقت معظم المؤسسات الثقافية في جميع أنحاء العالم إلى أجل غير مسمى، أو على الأقل تقلصت خدماتها بشكل جذري، إلى جانب وقف المؤتمرات والندوات، والفعاليات الثقافية، وإغلاق المتاحف مثل المتحف البريطاني واللوفر الفرنسي وغيرهما.
كما ألغت معارض كتاب مثل “معرض باريس السنوي” في دورته الأربعين، ومعارض تونس وبغداد للكتاب، وكذلك جرى تعليق أنشطة اتحادات الأدباء والكتاب والأمسيات الثقافية، وصالات السينما والمسارح، واكتفت الهيئات الثقافية بفعاليات إلكترونية بديلة لا تروي ظمأ المجتمعات للثقافة.
ومع تخفيف إجراءات الحظر والإغلاق بدأت الفعاليات تعاود الظهور، لكن التخفيضات الحكومية والخاصة بتمويل الثقافة والفنون في الدول المختلفة تهدد العاملين بالقطاع الثقافي بطريقة لم يشهدها منذ عقود، كما أن العديد من العاملين في قطاع الثقافة بشكل مؤقت أو بعقود دائمة أو في وظائف وأعمال مختلفة خسروا وظائفهم، مما يشكل تأثيراً مباشرة على خدمات الثقافة عالمياً.
أوروبا وبريطانيا
أعلن رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون عن السماح بفتح مجموعة من الأماكن العامة في إنجلترا، بما في ذلك المتاحف والمعارض الفنية، في 4 يوليو/تموز المقبل. ويحاول العاملون في القطاع الثقافي توفير بيئة آمنة وشاملة ومرحبة لتحفيز الناس مرة أخرى على الانخراط في الأنشطة الثقافية.
لكن مكتسبات نضال عقود من الزمن لرفع تمويل الثقافة والفنون في البلاد تبدو مهددة مع خطط تقشفية تلوح في الأفق، رغم تحدث العديد من العاملين في القطاع الثقافي عن الحاجة الاستثنائية لتوفير محتوى ثقافي أكثر تحفيزًا لإقناع الجماهير بالعودة رغم محاذير السلامة الصحية.
وفي السنوات الثماني الماضية جرى اقتطاع قرابة 400 مليون جنيه إسترليني من قطاع المكتبات والمتاحف والمعارض الفنية مما جعل قرابة 300 مكتبة عامة في بريطانيا تعلق أبوابها السنوات الأربع الأخيرة.
وطوال فترة الإغلاق كان متوسط خسائر الإيرادات الأسبوعية المبلغ عنها في قطاع المتاحف الأوروبية 80%، وبسبب حقيقة أن قطاع الفنون والثقافة من الاقتصادات الوطنية فإنه يتميز بنسبة عالية بشكل خاص من العقود المؤقتة والعمل الحر، وكانت الخسائر الشخصية على الموظفين مضاعفة.
وأدى الإغلاق المتزامن للقطاع الثقافي، والعزل المنزلي لجمهور الثقافة، إلى رغبة لدى كثيرين للاستفادة من الأنشطة الثقافية إلكترونياً وعبر الواقع الافتراضي، وخفف العديد من الناشرين القيود المفروضة على التوزيع الرقمي لأعمالهم المحمية بحقوق النشر.
المكتبات والمحفوظات
واجهت المكتبات أوضاعاً مختلفة تراوحت بين الإغلاق الكامل والجزئي، وعلى الرغم من أن معهد خدمات المتاحف والمكتبات الأميركي اعتبر أن خطر انتقال فيروس كورونا عبر ورق الكتب منخفض نسبياً استناداً لأبحاث نشرت في مجلات طبية، لاحظ “الاتحاد الدولي لجمعيات المكتبات” أن بعض المكتبات فرضت فترة انتظار قبل التعامل مع الكتب المرتجعة والمعارة.
ومن جانب آخر ازدادت أهمية الخدمات المكتبية التي لم تنقطع فترة الحجر الزمني والإغلاق مثل المكتبات الطبية ومكتبات السجون ومرافق رعاية المسنين، وشرعت العديد من المكتبات الحكومية في بلدان -مثل الأرجنتين والبرتغال والنرويج- بتوصيل الكتب للقراء في بيوتهم تجنباً للتكدس في المكتبة.
وأتاحت العديد من المكتبات حول العالم، بينها المكتبة الوطنية المغربية، تحميل كتب من موقعها الإلكتروني، ووفرت بعض هذه المكتبات كتبا صوتية مسموعة لمن يود الاستماع إليها.
وأتاحت مكتبة قطر الوطنية العديد من المصادر إلكترونياً للتصفح، بينها كتب ودوريات ومجلات وصحف إلكترونية ومقاطع فيديو وموسيقى.
وتضمنت الإجراءات الجديدة استلام الكتب عبر خزائن خاصة (في كوريا الجنوبية) والحد من عدد المستفيدين في الوقت ذاته (في اليابان) والحد من وجود القراء داخل المباني المغلقة (مثل تايوان التي أعادت ترتيب المقاعد داخل مكتباتها) ووضع بروتوكولات جديدة للنظافة الشخصية للموظفين والمستفيدين (مثل ارتداء القفازات عند جمع الكتب المرتجعة في أستراليا)
الآداب والنشر
وبعد أن تم إلغاء وتأجيل العديد من المهرجانات الأدبية ومعارض الكتب، تضررت صناعة النشر والطباعة، في حين تكيف العديد من بائعي الكتب عبر الاستفادة من خدمات الشحن والنقل بدلاً من البيع المباشر في متاجر الكتب والمعارض.
وشهدت الموضوعات الأدبية المرتبطة بالأوبئة، بما فيها بعض الروايات الكلاسيكية، طفرة في المبيعات وأصبح بعضها من الأكثر مبيعاً، مثل رواية الأديب الفرنسي ألبير كامو “الطاعون” وألغت بعض المجلات نظام الاشتراك المدفوع، وأتاحت وصول الجمهور لموادها مجاناً لفترات تراوحت بين يومين وثلاثة أشهر.
المتاحف
بعد إغلاق المتاحف في معظم بلدان العالم، تحولت كثير من خدماتها إلى العالم الافتراضي لاجتذاب زوار إلكترونيين، وبعد تخفيف إجراءات الحظر مؤخراً بدأت بعض المتاحف فتح أبوابها وسط تدابير صحية، مثل المعرض الوطني للفنون في الولايات المتحدة الذي فرض على زواره ارتداء الكمامات.
واستغلت بعض المتاحف فترة الإغلاق في محاولة دعم أرشيفها بقطع وأدلة ترتبط بالأحداث الحالية والطرق التي تغير المجتمع خلالها، وبدأت العديد من المتاحف برامج “جمع الاستجابة السريعة” في محاولة لتوثيق واكتساب القطع الأثرية، واستغلت مؤسسات مختلفة فترة الإغلاق لإعادة ترتيب أولويات مشاريعها، وقام متحف التقسيم في أمريتسار بالهند بأعمال البرمجة والتسجيل والتحرير والترجمة لأدلة المرشدين الجدد عن بعد.
ويستعرض المتحف الذي افتتح عام 2007 القصص والمواد الأثرية والوثائق المتعلقة بأعمال الشغب بعد تقسيم الهند البريطانية إلى دولتين مستقلتين هما الهند وباكستان عام 1947.
ولأنه لا يعرف على وجه التحديد متى يتوقع أن تعود الحياة لطبيعتها لينتعش قطاع الثقافة عالميا من جديد، يتشبث العديد من العاملين في المجال الثقافي بأمل تطوير لقاح لفيروس كورونا، كما يعولون على خطط الدعم والتحفيز والإنعاش الحكومي من جهة، والتبرعات والمنح الخاصة من جهة أخرى لمواجهة تداعيات أزمة جعلت القطاع برمته مغلقاً حتى إشعار آخر.