د. محمود الذوّادي*
يُعدّ انتشار وباء كورونا في أرجاء العالَم أكبر جائحة عرفتها البشريّة في العصر الحديث. فبسببه دُعي الناس، على اختلاف مُجتمعاتهم، إلى البقاء في منازلهم وعدم مبارحتها إلّا للضرورة القصوى. فالناس مُطالَبون بالعُزلة، بعضهم عن بعض، لأسابيع على الأقلّ. وهو نمط حياة جديد يُقلق معظم الأفراد والجماعات، ويجمّد حراك المؤسّسات والمَعامِل والمقاهي والمَطاعم والمَدارِس والمَعاهِد والجامعات ووسائل النقْل الجماعيّة من قطارات وحافلات، علاوة على المطارات. وهي كلّها مَعالِم سلبيّة ضدّ أنماط الحياة الجماعيّة التي اعتاد عليها معظم المُجتمعات البشريّة.
في مقابل ما ذُكر عن بعض المَعالِم السلبيّة لوباء كورونا، نودّ إلقاء أضواء على جانبٍ مُشرِق للعزلة كنتيجة له. فالعزلة لدى المفكّرين والعُلماء مُرتبطة بالوصول إلى فكرٍ جديد عميق واكتشافات مُبتكَرة.
يجوز بكلّ مشروعيّة ذكر اسم المفكّر العلّامة عبد الرّحمن ابن خلدون كمثالٍ عربيّ على بروز الفكر المُبتكر والعميق في أحضان العزلة. فبعد حياة التنقُّل والاحتكاك الواسع بالبدو والحضر في أنماط حيواتهم المُختلفة وجمْع المُعطيات المُرتبطة بها، كان على صاحب “المقدّمة” أن يلتزم ببذل جُهد مُكثَّف تفكيراً وتأليفاً كحصاد لمُلاحظاته وفهْمه وتفسيره للعديد من الظواهر في المُجتمعات البدويّة والحضريّة في المنطقة العربيّة الإسلاميّة. وللقيام بذلك، اختار إلزام نفسه العزلة والابتعاد عن الآخرين في البيئتَين الحضريّة والبدويّة. فكانت قلعة بني سلامة المكان الذي استقرّ فيه، حيث وَجَدَ الخلوة والانعزال. وهُما ما يحتاج إليهما المُبدعون كما تؤكِّد البحوث الحديثة حول ظاهرة الإبداع والمُبتكِرين.
فعلى المستوى النفساني، تقف العزلة حاجزاً قويّاً أمام تشويش العوامل الخارجيّة صفاء عمليّة التفكير لدى المُفكِّر والعالِم والباحث حول ما هُم بصدد التأمُّل فيه. يصف سالم حميش طبيعة هذه الخلوة التي عاشها ابن خلدون في أثناء تأليفه “المقدّمة” قائلاً: “الموقع هو قلعة بني سلامة… موقع يحكي بقاياه عن جدبه الطبيعي وهَيمنة الحجارة عليه، وإضافة إلى كلّ هذا، هناك السكون المُتواتر الذي يتيح التأمّل ويستثير الفكر في علوم ذلك العصر. كان مَوقع موعد مؤرّخنا مع حلقة فكريّة، حلقة موضوعها الأسبق والأساس ليس الإلهيّات أو خلاص الروح، بل الإنسان ومنحى حياة مُجتمع وحضارة، تزوَّد المُفكّر في شأنها بصفو المَعارِف والمعلومات… كان تحرير المقدّمة إذن يستدعي الطبيعة الخالية والهواء الطليق، أي الخلوة وما يشبه النفس الكوني، وذلك حتّى يرصد صاحبها المرحلة التي بلغها التاريخ ويكوِّن نظريّة تجريبيّة وأساسيّة في الثقافة… علوّ المَوقع الهادئ الشفاف اعتزالٌ ليس صوفيّاً بل هو ناتِج عن تخلٍّ سياسي: إنّها ظروف سعيدة اجتمعت لابن خلدون حتّى يُحقِّق بين الواقع المُجتمعي والفكر الزواج ربّما الأكثر توفيقاً في تاريخ التراث العربي الكلاسيكي”.
العزلة وكثافة تدفُّق الفكر
لم تَستغرق مدّة تأليف ابن خلدون لكِتاب “العِبَر” الضخم في تلك العزلة أكثر من أربع سنوات. وهي بالتأكيد مدّة قصيرة قياساً على المدّة التي يحتاج إليها المؤلّف لإنجاز مثل هذا العمل الفكري الذي يبلغ أكثر من 8000 صفحة في مجلّداته السبعة في الطبعة العربيّة (1978). وممّا يدعو إلى مزيد من العجب أنّ ابن خلدون نفسه يُخبرنا في نهاية “المُقدّمة” أنّ تأليفه لها لم يأخذ منه سوى خمسة أشهر: “قال مؤلّف الكِتاب عفا الله عنه: أتممتُ هذا الجزء الأوّل بالوضْع والتأليف قبل التنقيح والتهذيب في مدّة خمسة أشهر آخرها منتصف عام تسعة وسبعين وسبعمائة، ثمّ نقَّحته بعد ذلك وهذَّبته”. فتأليف “المقدّمة” في هذه المدّة القصيرة مسألة تكاد لا تُصدَّق. لكنّ بعض المُعطيات البحثيّة حول التفكير التجديدي والإبداعي تُساعِد على فهْم ظاهرة تأليف “المقدّمة” في ذلك الزمن القصير وتفسيرها.
هناك أربع مراحل حدَّد مَعالِمَها علمُ النَّفس الحديث تساعد على فهْمٍ أفضل لقدرة ابن خلدون على كِتابة “المقدّمة” في تلك الفترة الوجيزة؛ إذ إنّ مجرّد كِتابتها بخطّ اليد قد تستغرق أكثر من نصف هذه المدّة. معنى هذا أنّ عقل صاحب “المقدّمة” كان، ربّما قبل الانعزال في قلعة بني سلامة وبالتأكيد أثناءه، مُنشغِلاً بموضوع عِلم التاريخ ونقائصه العديدة التي انتقدها بشدّة. فابن خلدون قد ألَّف الأجزاء التاريخيّة لكِتاب “العِبَر” قبل كِتابته “المقدّمة”. أي أنّ نتاجه الفكري المُبتكر المُتمثِّل في “المقدّمة” لا بدّ أنّه مرَّ بمراحِل الإبداع الأربع أو ما يُشابهها: مرحلة الخمول (مجرّد ظهور فكرة جديدة لدى الباحث)، ومرحلة الحضانة (فترة تخمُّر الفكرة)، ومرحلة الإضاءة (ميلاد رؤية جديدة)، ومرحلة الاختبار (التحقُّق من صدقيّة الفكرة). فاحتمالٌ كبير أنّ المرحلة الأولى لانشغال عقل ابن خلدون بالكشف عن باطن التاريخ قد بدأت في أثناء تأليفه للأجزاء التاريخيّة من كِتاب “العِبَر”. وهذا لا يمنع من أنّ تفكيره في عمق/ باطن التاريخ يُمكن أن يكون قد بدأ قبل ذلك. ولكنّه لم ينجح في الحالتَين في استشراف مَلامِح رؤية جديدة تُنقذ عِلم التاريخ من مأزقه. فتركَ هموم بحثه مؤقّتاً جانباً (مرحلة الخمول).
أمّا بعد الاستراحة من التفكير في المَخرج من رؤى عِلم التاريخ التقليدي، فقد أعاد ابن خلدون الكرّة باحثاً عن ضالّته عبر تنظيم مُعطيات عِلم التاريخ تنظيماً أكثر تماسُكاً. فشرعَ في تصنيف أنواع أسباب الكذب عند المؤرّخين وتنميط المُجتمعات إلى بدويّة وحضريّة، والعصبيّات إلى قبليّة ودينيّة…إلخ. وكانت تلك مرحلة الحضانة.
أمّا مرحلة الإضاءة اللّاحقة التي توصَّل فيها ابن خلدون فجأة إلى اكتشاف إطارٍ معرفيّ جديد يضع الأحداث التاريخيّة والمُجتمعيّة في نِصابها. فالحلّ المُفاجئ لمُشكلة ابن خلدون مع عِلم التاريخ تمثَّل في اكتشاف عِلم العمران البشري الوليد الجديد. هذا العِلم الذي يُعلن صاحبه أنّ الأحداث التاريخيّة الماضية والحاضرة والمُستقبليّة لا يُمكن فَهمها وتفسيرها بنضجٍ وصدقيّة من دون هذا العِلم المُبتكر على يدَيه. ومن ثمّ أَطلق على مُقدّمته اسم “الكِتاب الأوّل”. أي أنّ تاريخ العرب ومَن عاشرهم من ذوي السلطان الأكبر – الذي هو موضوع ما تبقّى من كِتاب “العِبَر” – لا يُمكن استيعاب مغزاه وكشْف الحجاب عن عِلل أحداثه من دون الرؤية العمرانيّة الجديدة التي كتبها ابن خلدون وصنَّفها في فصول مقدّمته وأبوابها. وبحسب عِلم النَّفس، فإنّ تبلْوُر مَعالِم هذا العِلم الجديد تمَّت في مرحلة الإضاءة أو المرحلة الثالثة من مشروع بحث ابن خلدون في عِلم التاريخ.
إنّ كتابة ابن خلدون للأجزاء التاريخيّة لكِتاب “العِبَر” قبل تأليفه “المُقدّمة” تعيننا على إبراز بُعدَين مهمَّين:
(1) إنّ انكباب صاحب “المُقدّمة” – في عزلته تلك – على تأليف كِتاب “العِبَر” لا بدّ أنّه لَعِبَ دَوراً حاسِماً لدى ابن خلدون في تبلور مرحلة الإضاءة عنده حول العرب ومَن عاشرهم من ذوي السلطان الأكبر بحسب عِلم النَّفس بخصوص ميلاد الإبداع لدى البشر. ومنه سَمَحَ هذان العاملان له بتجلّي آفاقٍ ورؤى جديدة حول نمط البنيات والمؤثّرات العمرانيّة التي تُشكِّل الأحداث التاريخيّة، فكان ميلاد عِلمه المُستحدَث الصنعة والغريب النزْعة.
(2) وإذا كانت منهجيّة وعقلانيّة الأجزاء التاريخيّة لكِتاب “العِبَر” دون مستوى ما نجده في “المُقدّمة”، ففي هذا دليل قويّ على أنّ ابن خلدون قد اهتدى إلى عمله الجديد في المرحلة الأخيرة لتأليفه لتلك الأجزاء من كِتاب “العِبَر” وهي مرحلة تأليف “المُقدّمة”.
أمّا المرحلة الرّابعة في عمليّة العمل الإبداعي، فتتمثّل، كما ذكرنا، في عمليّة الاختبار أو التحقيق الذي يقوم بها الشخص المُبتكِر بخصوص مدى صدقيّة الفِكر/ الفنّ/ العِلم الجديد. ويبدو أنّ ابن خلدون اختار “مَنهَج المُطابَقة” لا مَنهَج التعديل والتجريح المُستعمَل في الخَبَر الديني والشرعي لاختبار الأحداث التاريخيّة صحّةً أو بطلاناً.
العزلة وعمَل اللّاشعور
يجوز طرْح فرضيّة وجود علاقة بين العزلة ونشاط اللّاشعور أو العقل الباطني في تحريك فكر الإنسان نحو الابتكار والتجديد. تسمح هذه الفرضيّة بالقول إنّ مرحلتَي الحضانة والإضاءة هُما الأكثر ترشُّحاً للتأثُّر باختراق عامل اللّاشعور لأنشطتهما. ولعلّ مَلامِح تأثير اللّاشعور تتّضح أكثر في المرحلة الثالثة: مرحلة الإضاءة حيث يأتي الاكتشاف المُباغِت والإجابة الجديدة المُفاجِئة لدى صاحب الابتكار والإبداع. إنّ دَور خزينة اللّاشعور في حياة الإنسان قد أماط اللّثام عنه عالِم النَّفس فرويد الذي يرى أنّ عالَم اللّاشعور عند الإنسان يوجِّه سلوكَ الناس بتساوٍ مع عالَم الشعور أو ربّما أكثر.
فالكثير من سلوكيّات الناس وأعمالهم الإبداعيّة تكون نتيجة، لا الجانِب الواعي من حياتهم، بل الجانب اللّاواعي (اللّاشعوري) منها. فعندما يُسأل الشاعر مثلاً: كيف كتبتَ هذه القصيدة؟ تكون الإجابة: لا أدري أو يضيف عادةً قائلاً: “هي التي أوحت نفسها إليّ”.
إنّ العِبارات المعهودة التي يُدلي بها بعض المُبدعين مثل عبارتَي “لقد باغتتني” أو “أدركتُ للتوّي”، تشير بوضوح إلى عامل المفاجأة الذي طالما يقترن بالكشف الإبداعي عند هؤلاء. فلم يخلُ ردّ فعل صاحب “المُقدّمة” من الدهشة والحيرة، وهو يكتشف أنّه بصدد إرساء ركائز عِلمٍ جديد. فلجأ إلى طمْأنة نفسه عن تبلْور هذا العِلم “الغريب النزعة” بإرجاعه إلى مَصدر الإلهام الإلهي، أي إلى تلك اليد الخفيّة أو إلى مَخابئ اللّاشعور وظلماته بالتعبير “الحديث”، التي تعمل في دنيا الأشخاص من دون أن يكون لها حضور في وعيهم. وهكذا يفوز ابن خلدون في عزلته في قلعة بني سلامة بحيازة سِمات الابتكار ومَراحله التي أهّلته بحقّ للانتماء إلى معشر الروّاد والمُبدعين في عوالِم الفنّ والفكر والعِلم والمَعرفة.
- عالِم اجتماع من تونس