مُضطرٌّ هو المهاجر أو المسافر في البلاد غير الاسلامية أن يتكيف مع أوقات رمضان المختلفة، وأسوأ ما في الحال إحساسُهُ وسط غير الصائمين بأنه الصائم الوحيد في هذا المحيط الواسع من غير الصائمين، وعلى العكس من ذلك شعوره وهو يؤدي هذه الفريضة في محيطه الإسلامي، حيث التماثل في الوقت والعادات والقيم. وكثيرةٌ هي الأيام الضائعة تلك التي أمضاها الصائم في محيط أجنبي لا يربطه به رابط، حيث يبدو الصائم في غربةٍ عن أهله ومحيطه، فليس هناك أجمل للمسلم من أن يقضي وقته في مجتمعه بين إخوته ومماثليه بالعقيدة والانتماء.
وإني لَأَتَذَكَّرُ من أيامي التي قضيتها في شوارع باريس وبرلين وغيرهما من المدن الأوروبية وأنا صائم، وغيري يتناولون الطعام والشراب في أي وقت شاؤوا، وقد يكون ذلك من باب الامتحان للمسلم في عقيدته وصبره وتحمله، وقد يكون ذلك التصور الخاطئ نتيجة الالتزام الصارم، ولا أثر للمكان في ذلك، فالناس في ذلك العالم لا يأبهون للخلافات العقائدية والمذهبية، ولا تمييز يُذكر لديهم سوى عند الحديث عن الجاليات المختلفة الانتماء، وفيما عدا ذلك لا يوجد أي تمييز، وهذا ما يثبته الواقع ويؤكده مرور الزمن.
ومن تكرار القول استعادة تلك الأيام التي كنت أقضيها في شهر رمضان الكريم في أحد شوارع برلين الطويلة، وكيف كنت أتذكر ليالي رمضان في بلادنا أو في بقية الأقطار العربية، حيث تتسم بطبيعة المعنى الرمضاني، وما أطرف أن نتذكر الطفولة ودورَها، وكيف يستطيع الإنسان أن يتجاوز بالأحلام واقعَه، وما يتجمع في أطرافه من تصورات؛ تعود إلى طفولته وذكرياتها التي ترفض أن تتلاشى أو أن يحكم عليها الزمن المتغير بالتوقف أو الانتظار إلى ما بعد النتائج المترتبة على ذلك التوقف والانتظار. وكل غربة تتلاشى ولا تترك الأثر المعبَّر عنه في هذه الإشارات باستثناء الغربة في شهر الصوم، فهي تحرم الإنسان من تلك العادات الرمضانية الجميلة التي نعيشها في أوطاننا على العكس مما يشعره المهاجر من شعور بالغربة في رمضان والأثر الذي ينطبع في الذاكرة عن واقعٍ لا يتوقف عن التغير في حالة النزوع الروحي.
ورغم كل الإشارات السابقة فإن التعبير عما في النفس تجاه الغربة الرمضانية خارج الأرض العربية والاسلامية يختلف باختلاف التجربة في هذا البلد الأجنبي أو ذاك، وعندما أستعيد بوضوح ذكريات تلك الأيام الحزينة التي كنا نسير بها في شوارع برلين، أو إحدى شوارع دول ما كان يسمى بأوروبا الشرقية بما في ذلك الجزء الأكبر من ألمانيا وأقطار الاتحاد السوفيتي.
لقد قيل إن العالم صار متداخلَ الأجزاء، ولكن هذا التعبير يظل شعريًّا أكثر منه انتماءً إلى الواقع كما هو مُعبرٌ عنه، وسواء أكان هذا التعبير ماديًّا أو روحيًّا فإن ذلك يبقى التعبير الممكن عن حالةٍ دائمةِ التغير الجزئي والكلي، وميزة الإنسان أنه في حالة تغير مستمر، يخرج من دائرة إلى أخرى، ومن مجال إلى أخر، وكل غربة تهون ولا تترك أثرًا في حياتنا كما تتركه غربتنا في شهر رمضان، في أقطار لا علاقة لها بهذا الشهر الكريم من قريب أو بعيد.