مصطفى لغتيري*
رغم أن السوسيولوجيا علم مستقل بذاته، باعتباره دراسة للحياة الاجتماعية للبشر، ويتميز بدقة موضوعاته ومناهجه واتجاهاته وأهدافه، غير أن الأدب والرواية بشكل خاص تنافسه في مجال تخصصه، إذ أنها تمارس نوعا من السوسيولوجيا، من خلال تفكيكيها لبنيات المجتمع وتشكلاته، ولو عبر آلية التخييل، بل هناك من الروائيين من يغوص عميقا ليكشف لنا كيفية تشكل بعض الظواهر الاجتماعية وطرق اشتغالها وتطورها داخل المجتمع.
ولعل القارئ لرواية «حصن الزايدي» للروائي اليمني محمد الغربي عمران سيجد نفسه لا محالة أمام عمل سوسيولوجي كامل الأركان والمقومات، حتى إن كانت الرواية لا تهدف إلى ذلك، بل هدفها الأساس تقديم حكاية الإنسان في طابع أدبي ممتع، وهو في رأيي ما نجح الكاتب في تحقيقه، فضلا عن تفكيكه العميق لبنية المجتمع اليمني من خلال عدة معطيات أساسية:
معطى السلطة:
لقد استحوذ البعد السياسي على الرواية بشكل مثير، وكأن المتن الروائي أطروحة قائمة الذات في علم الاجتماع السياسي، إذ أن الكاتب ركّز في تأثيثه لهذه الرواية على كيفية تشكل السلطة الحاكمة داخل مجتمه مصغر» الحصن»، الذي لا يشك القارئ في أنه يرمز إلى المجتمع اليمني الكبير، فالسلطة في يد فرد واحد يحكم بهواه، مستحوذا على جميع السلطات بين يديه، والولاءات تبنى بالأساس، على البعد العائلي والقبلي، والسلطة السياسية تتوارث أبا عن جد، ولا مجال للتداول فيها، مرداس نموذج. كما أن السلطة الدينية، التابعة للسلطة السياسية، تنهج النهج نفسه، فالفواطم يتوارثون هذه السلطة ويقدمونها لمن سيدفع أكثر، من أجل مساعدته على تثبيت أركان سلطته، وقد يذهب بهم الطموح بعيدا، ليطمعوا في الاستيلاء على السلطة السياسية، كذلك ليجمعوا بين السلطتين، كما طمح إلى ذلك تحقيق ذلك «زيد» الفاطمي.
معطى الدين:
يعد الدين في المجتمع اليمني من الثوابث الأساسية، فلا يمكن تصور أي عمل داخل المجتمع اليمني لا يرتكز على هذا المعطى، فكل الفاعلين في المجتمع يستندون إلى الدين، باعتباره مبرر وجودهم أو على الأقل يمنح الشرعية لهذا الوجود، لذا يطمح الجميع للتحدث باسم هذا الدين، فالسلطة السياسية توظفه لتثبيت وجودها داخل المجتمع، وتبرير استمرارها بذريعة إقامة شرع الله، والمعارضة تتبع الخطة نفسها، إذ أنها تبني مشروعها السياسي على المبرر الديني للانقضاض على سلطة الزمان، فغايتها المعلنة ليست سوى الدعوة إلى صحيح الدين الذي أفسدته السلطة القائمة. وهذا ما استطاع الكاتب محمد الغربي عمران تقديمه في الرواية بكثير من الإقناع، فما إن ينتهي القارئ من تصفح الرواية حتى يستقر في خلده الدور الخطير الذي يقوم به الدين في الصراع السياسي في المجتمعات المحافظة.
معطى القبلية:
يرتكز المجتمع القبلي على العصبية القبيلة باعتبارها القوة الضاربة، التي تيسر على كل من يطمح إلى امتلاك السلطة أن يتوفر عليها، لذا نجد كلا من الحاكمين والمعارضين لهم، يسعون إلى تشكيل أحلاف قوية من القبائل التي تشترك معهم في الدم والنسب والانتماء للجغرافي والسلالة التاريخية، فهذا الانتماء يقوي شوكة المحتمي بها، وتسهل عليه تحقيق أهدافه، من خلال الاعتماد عليها عبر مفاوضات، غالبا ما تنتهي بتنازل عن جزء من السلطة للحليف، أو قطعة من الأرض، أو مبلغ مهم من المال. ولعل ما حدث لمرداس يظهر أهمية ذلك، فهو من جهة رفض تزويج ابنتيه حتى لا يأتي من يطمع في حكمه، ولكن حين تكالبت عليه الأطماع من كل جانب عض على أصابع الندم، لأنه لم يزوج ابنتيه، فربما أنجبتا له أبناء يشدون أزره في هذه الظروف العصيبة.
رغم محافظة المجتمع اليمني، إلا أن مكانة المرأة داخل المجتمع كبيرة، فحتى إن بدت سيطرة الرجال على المظاهر الحياتية المتنوعة، فإن حضور المرأة يعبر عن نفسه في تحريك الرجال من وراء حجاب
معطى العنف:
يشكل العنف أداة أساسية في المجتمع القبلي، فالسلطة تمارسه بدون شرط، أو قيد ضد المناوئين والموالين على حد سواء، إما لفرض هيبته أو لصد الأطماع عنها، وقد يصل هذا العنف إلى درجة من الشراسة لا يقبلها العقل، كما فعل حماة الحصن حين لجأوا إلى إشعال النار في الغابة، من أجل إحراق المناوئين لهم بدون رأفة أو رحمة، أو عقوبة سمل الأعين، وهو عنف متبادل يمارسه المعارضون بالقسوة نفسها كذلك، كما فعل المتمردون على السلطة الحاكمة في الحصن، حين أجهزوا على زوجة مستشار حاكم الحصن «زيد» وأطفاله الصغار، محاولين تمرير رسالة له مفادها، أنهم على دراية بخططه، أو كما فعل الحاكم مع كل من يشك مجرد الشك في خيانته، وتسريب أخباره حتى من أقرب أقاربه، بنتي الحاكم مثلا.
معطى المرأة:
رغم محافظة المجتمع اليمني، إلا أن مكانة المرأة داخل المجتمع كبيرة، فحتى إن بدت سيطرة الرجال على المظاهر الحياتية المتنوعة، فإن حضور المرأة يعبر عن نفسه في تحريك الرجال من وراء حجاب، فكل الدسائس السياسية تحاك في الخفاء في المخادع، أما إذا أتيح للمرأة الظهور والتعبير عن نفسها بشكل جلي، فإنها تتفوق على الرجل في التخطيط وممارسة العنف، كما فعلت بنت شنهاص، التي خلقت أسطورتها، خاصة بين أوساط الرعية في الحصن عامته وخاصته، فهي المرأة التي اجتمع الغيظ والقهر في نفسها، فتفجر ما بداخلها دفعة واحدة، فعبّر عن نفسه بالتمرد ثم القتل، الذي تفننت في ممارسته، تسعفها في ذلك قدرتها على استعمال السلاح، وكفاءتها في ذلك، فبالغت في القتل، حتى أرعب ذكرها الحصن كله وطردت النوم من جفون الحكام، وزادت الطريقة التي لقيت بها حتفها، وهي تحضن بندقيتها وتسقط حراس الحصن الذين طاردوها تباعا من وهج الأسطورة، التي ترسخت في أذهان الناس.
خلاصة القول إن رواية «حصن الزايدي» للكاتب اليمني محمد الغربي عمران تجمع بين المتعة الأدبية، من خلال سرد حكاية متشعبة بشخوص يتمتعون بحيوية، تجعلك تشعر وكأنهم من لحم ودم، وليسوا فقط شخصيات رواية، كما أنها تقدم تشريحا سوسيولوجيا للمجتمع اليمني، يمنح القارئ صورة مفصلة عن تشكيل البنية العميقة للمجتمع اليمني في عمقه السياسي والثقافي والاجتماعي.
• كاتب من المغرب