الصين دولة عظمى، شـأنها شأن الولايات المتحدة، وكانت منذ وقت قصير قد بدأت تبسط ظلها الاقتصادي على أجزاء كبيرة من العالم، حتى ظهر أخيراً ما سُمي بفيروس “كورونا” وحوَّل انتباه العالم في هذا البلد الكبير من الاقتصاد إلى الوباء. والأمنيات أن تعود هذه الدولة العظمى إلى ما كانت عليه، فالعالم -والثالث منه خاصة- أحوج ما يكون إلى دور هذه الدولة الكبيرة في منافسة الأقوياء وتحدي سلوكهم اللاأخلاقي في التعامل.
وليس بعيداً ما يُشاع من أن الولايات المتحدة الأمريكية وراء انتشار الفيروس المشار إليه لتعويق حركة النهوض الصيني، والوقوف في وجه زحفِها السريع، ونمو تأثيرها على الجزء الأكبر من عالم اليوم. وفي سبيل إخضاع الدول الكبرى للدول النامية، لا تتردد القوى المهيمنة تاريخياً من استخدام كل وسيلة لاأخلاقية، لكن المؤشرات الأخيرة تثبت أن الصين بقدراتها ووعي شعبها قادرة على التحدي المطلوب. والسؤال الذي يطرح نفسه دائماً في مثل هذه الإشارات هو: أين الوطن العربي من كل هذه الأحداث المزلزلة؟ وهل استطاع أن يفيد من تجارب الشعوب، وتجربة الصين خاصة؟ فهي أقرب إلى واقعنا، وفي
إمكانها مساعدة أقطارنا العربية على تجاوز حالة الركود والضعف في نموها. والمهم أن تتجلى رغبة التغيير والشعور المسؤول بتجاوز ما تراكم في طريقنا من معوقات. وإذا كان العالم قد توقف طويلاً عند وباء “كورونا” في شكله القديم، فإن القلق والمثير للخوف أن يتم الحديث عن ظهور فيروس جديد في الصين وإمكانية عبوره الحدود وإقلاق العالم والشعوب النامية، على وجه التحديد، بهذه التطورات السلبية وما يتفرع عنها ويطير.
وما يدعو إلى القلق أكثر فأكثر أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لا يكف يومياً عن إجراء مؤتمرات صحفية يبرر فيها دور دولته العظمى، ويبدي حرصه الشديد على البحث في مخازن الأسلحة الفيروسية عن حلول تعيد إلى العالم الأمان. وليت أن يكون هذا الموقف صادقاً، ومن أجل الشعوب التي شغلتها أحاديث الأوبئة عن متابعة التطور والانطلاق نحو الأهداف التي توقَّف الاهتمام بها طوال الانشغال بوباء “كورونا” وأمثاله. وبما أن الصين هي عنوان هذا الحديث وموضوعه الأساس، فإن علينا أن لا نخرج عنه بالانتقال السريع إلى الأمر الواقع. وسبق لي أن استعرتُ من (أبي الطيب) بيته الشعري المعروف والمتداول: “وإذا كانت النفوسُ كِباراً تَعِبت في مُرادِها الأجسامُ”. فمن حق الشعوب أن تتعب وأن تقاوم وأن تتصدى للمعوقات الصادرة عن الذات، والصادرة من خارج الذات. وإذا كانت أجسام الأفراد، كما يشير البيت الشعري قادرةً، فإن الشعوب أجدر وأحق من أن تقدم أقصى ما تسطيعه من تحدٍّ، بغض النظر عن المتاعب والأعباء التي قد تعاني منها في سبيل ذلك الهدف العظيم.
ويحضرني فجأة عالَمُ النمل، وهو مثال صارخ ونبيل لتحدي القدرات الذاتية لهذه المخلوقات التي تحمل أضعاف وزنها، وتسير به مسافاتٍ طويلةً، متعثرةً حيناً، وناجحةً أحياناً أخرى. ولو قد أطال الإنسان التأمل في معاناة هذه المخلوقات الدقيقة والصغيرة وما تعانيه في سبيل الحصول على رزقها وتخزين ما تستطيع تخزينه، لَوَاجه التطورات الخاصة به وما يفرضه عليها عالمها من تخزين ما يكفي من القوت. ويلفت الانتباه هنا ما تُبديه هذه المخلوقات الصغيرة من تعاون وشعور بالمسؤولية. وقد قيل إن أحد القادة وقف يوماً على صخرة بعد أن تلقَّى هزيمة نكراء، ولفتت انتباهه نملةٌ تقاوِم، تحمل على ظهرها ما هو أكبر من وزنها، وكلما تعثرت قامت من جديد وواصلت السعي حتى وصلت إلى غايتها. عندئذٍ أعاد هذا القائد الكَرَّةَ، ووجد مجال النصر واسعاً، وكان ذلك النصر الذي حققه القائد المهزوم بفضل ما أوحت به تلك النملة التي لا يكاد يراها البشر وهي تعبر طريقهم إلاَّ بصعوبة شديدة.
ونحن على ثقة بأن الصين العظمى قادرة على تجاوز الخلل المؤقت في أقصر وقت ممكن، وليس نصرها سوى نصراً لبقية الشعوب في العالم الثالث المطرود من جنة العالم الأول وقيادته المتغطرسة والمهيمنة.
المقال التالي المقالة التالية