هدى عيد*
«لستُ في حاجةٍ إلى تقديم القلق لكم، فكل منا قد ابتُلي بهذا الشعور، والحق أقولُ لكم إنه حالة وجدانيةٌ نشعرُ بها في أنفسنا، وتعاودُنا مرة تلو الأخرى». قد تكونُ عبارةُ عالمِ النفس الشهير سيغموند فرويد، التي أدلى بها في القرن السابق، خيرَ توصيف لحال معظم أبناء القرن الحالي؛ هؤلاء الأبناء الذين أسرفوا ويُسرفون في استيلاد مشاعرالقلق والاضطراب حيال محنة «كورونا».
والقلقُ السوي عاملُ إبداع يحفز على التجديد والتغيير في أحيان كثيرة، أما القلق السائد حالياً فيقدم صُوراً مختلفة من سلوكيات الآدميين وتصرفاتهم، لا يبدو معها التغيير قصدياً واعياً، وإنما هو ناتج الصدفة أو الإلزام والجبر. قد يُتاح، في مقبل الأيام، لمن سيَسلَمُ من الإصابة بفيروس كورونا، التنبه إلى أن ما وافقت «منظمة الصحة العالمية»، أخيراً، على تسميته «وباءً» خطيراً، لنجاحه في إثارة قلق البشرِ ومخاوفهم، وقيادة بعضهم إلى حتوفهم، قد حملَ في جانبٍ من جوانبه، فرصةً حقيقية لإنسان هذا العالم، للتوقف قليلاً والتقاط أنفاسه، ونَوالِ فرصةِ التمعن في طريقة عيشه التي لم تعد تعرفُ الاستواء.
يحكمُ التقابلُ والتضاد الموقفَ الإنساني بين ما كان سائداً حتى وقت قريب، وما يسود علاقات البشر في الوقت الحالي. فقبل يسيرٍ من الزمن، أي قبل انتشار هذه الجائحة في الصين العظيمة في اجتهادها (أعجبنا التوصيف أو لم يُصب هوىً في أنفسنا)، كان الناس، ولستُ أستثني ذاتي منهم، قد تحولوا قطعاناً هائجة يطلبون في سعيهم، في الغالب الأعم، مالاً أو شهرة أو سلطة، مع ما يستتبع هذه المطالب من استدعاءات وإجراءات. وكان الدوس على الكرامات هو سيد المواقف، والسلاح الأكثر تناولاً وإشهاراً في وجوه الآخرين. ومثّلَ الآخر هدفاً مقصوداً نريدُ منه دائماً، ونسعى في طِلابه لتحقيق مبتغانا على يديه.
أياً يكن واقع الحال، فليكن جحيم هذا الوباء فرصة لابن الإنسان يعود فيها إلى ذاته، ويتخذ من عزلته حضناً دافئاً يهنأ بالسكنى في حناياهُ، عساه يعيد قراءة خفايا نفسه
أما الآن، فقد اشتعلت الرغبة المحمومة في الهرب من هذا الآخر، وفي الاحتماء منه ملمساً، وأنفاساً، ونظراً مباشراً إلى أعماق عينيه، لئلا يشعر الهارب بالخجل من الإنسانية المقهورة، أمام هاجس الحفاظ على الذات، والتعطش الملحاح للهرب من الموت المقبل بطيئا،ً أو على استعجال. لا، ليس صحيحاً أن الإنسان لا يحب حياة القطيع، فثلاثة أرباع البشر عبارة عن قطعان يُطرب أذنيها صوتُ شبابات رُعاتِها، ويسعدها طوال الوقت فعل تلبية النداء. وإنه لمن المذهل حقاً اكتشاف مقدار تماثلِ البشر، على تنوع ألوانهم ومشاربهم وثقافاتهم، في مشهدياتهم ومسالكِهم وأهوائهم، في هذه الأوقات. فالكماماتُ باتت تقنّع الوجوه، في كل مكان، والخطوات السريعة صارت خائفة من لقاء محتملٍ بمريض وهمي، أو بآخر حقيقي. هو حب الحياة والرغبة في الاستزادة من دقائقها الغالية، يتحكم في سلوك البشر وفي دوافعهم. طيب ما دامت الحياة ثمينة لهذه الدرجة لماذا يهدرها الإنسان في تفاهات لا تعرف الانتهاء؟
عندما كتب الروائي الأمريكي دان براون روايته المتقدمة «الجحيم» عام 2013، هل كان يحدسُ بما ينتظر العالم من أحداث ومجريات؟ وهل هو الخيال المجنح الذي دفعه إلى جعلِ بطلِه «لانغدون» يدركُ أن عالِمَ الهندسة الجينية الذكي برتراند زوبراست سيخترع فيروساً يقضي بواسطته على التضخم الســـكاني، ليريحَ كوكب الأرض من ثلث سكانه، أم أن تحليلات ودراسات قرأها، في بلاده، أو بلغة تحاكي لغة أبناء بلاده (عنيت نظـــرية الاقتصادي الإنكليزي توماس مالتوس عـــن تزايد الســكان، وآراءه المتعلقة بظاهرة التزايد البشري، وفق متوالية هندسية تتفوق على نسبة تزايد إنتاج الغذاء في العالم؛ تلك النظرية التي أثرت عميقاً في الغرب، وأدت إلى حدوث كوارث إنسانية حقيقية في أنحاء مختلفة من العالم)، أو سوى ذلك من احتمالات قد تكون دفعته إلى التفكير في مثل هذه السيناريوهات التي تبناها في روايته؟
أياً يكن واقع الحال، فليكن جحيم هذا الوباء فرصة لابن الإنسان يعود فيها إلى ذاته، ويتخذ من عزلته حضناً دافئاً يهنأ بالسكنى في حناياهُ، عساه يعيد قراءة خفايا نفسه، ويتعلم مجدداً فن تهجئة حروف إنسانيته، وعلاقاته الوجودية انطلاقاً منها، فيجعل من قلقه وهلعه مَطْهَراً يرتقي به عن سخافة الجري اللاهث خلف القشور، ويُسقط عن بصره سوء الرؤية، فيتخلص تالياً من القلق المبالغ فيه على المسار والمصير.
ولعل من الجميل الاستضاءة، في هذا السياق، بقول الإمام علي:» أنتُم طُرَداءُ المَوتِ :إن أقَمتُم لَهُ أخَذَكُم، وإن فَرَرتُم مِنهُ أدرَكَكُم. وهُو ألزَمُ لَكُم مِن ظِلكُم، فالمَوتُ مَعقودٌ بنَواصيكُم». وهذا لا يعني أبداً الاستسلام للموت، وإنما الركون إلى الهدأة والتعقل، ومحاولة التعامل مع هذه الأزمة الكونية من منظور المتفكر، الذي يجد لكل أمر وجهين متقابلين: واحد يفتح باب الظلام، وآخر يؤشر إلى ضوء خافت يلتمع من بين ثنايا هذا الظلام .
- وائية لبنانية