وادي ملح.. أربع سنوات من الانتهاكات والعبث
“صبرنا كثيراً يا ابني طيلة أربع سنوات، كان المسلحون يقلبون القرية رأساً على عقب، ويدخلون إلى المنازل ويحتلونها وينهبون ما بداخلها. وأجبروا كل سكان القرية والقرى المجاورة على الرحيل. عشنا في خوف وقلق ثم غادر الجميع ولم يتبق سواي” بصوت مخنوق تحكي صالحة حسين شربان (ستينية)، معاناة سكان محجر النعيمات في وادي ملح بمنطقة نهم (شرقي العاصمة صنعاء)، من جراء الانتهاكات التي مارسها مرتزقة تحالف العدوان على اليمن بحقهم بعد سقوط المنطقة بأيديهم قبل أربع سنوات.
تضيف صالحة في حديث إلى “الثورة”: “كانوا قرابة 400 مسلح في القرية، أطلقوا النار على نوافذنا واستبدلناها، وأجبرونا على إطفاء الأضواء في المساء داخل المنزل؛ خوفاً من أن يهجم عليهم أنصار الله، كما كانوا يبررون ذلك. اعتقلوا حتى من بقي في القرية من الشباب والأطفال ومن ثم كانوا يخرجونهم ويعيدونهم للسجن ليفرجوا عنهم مرة أخرى، حتى أجبروهم على مغادرة القرية”، وتردف بالقول: “بقيت قلة من نساء القرية لمدة شهرين في منازلهن غير قادرات حتى على اجتياز بواباتها، كنّ خائفات من المسلحين، وبعد ذلك نزحن في رمضان إلى صنعاء”.
#صحيفة_الثورة / #عبد_القادر_عثمان
في العام 2016، استطاع مرتزقة تحالف العدوان السيطرة على جبال نهم شرقي محافظة صنعاء، في محاولة منهم لدخول العاصمة، غير أن المقاومة الشرسة التي واجهوها من قبل الجيش واللجان الشعبية في جبال يام وحيد الذهب والقتب والمنارة وعيدة وما بينهم وجبلي رشا والمعراضة خلال السنوات الأربع الماضية لم تمكّنهم من تجاوز تلك الجبال، وهو ما دفعهم إلى تحشيد المزيد من القوات وإنشاء معسكرات مؤقتة “تزيد عن 17 لواء و20 كتيبة” حد قول العميد يحيى سريع، المتحدث الرسمي باسم القوات المسلحة اليمنية، في مؤتمر صحافي تزامن مع هزيمة قوات الحلفاء في نهم وهروب بعضهم إلى مارب والجوف في ما أسميت بعملية “البنيان المرصوص”، التي قتل خلالها 1500 مسلّح وجرح 1800 فيما بلغ عدد الأسرى أكثر من 400 مسلح.
هذا التحشيد تزامن مع القصف المكثّف لطائرات تحالف العدوان على قرى المديرية، ما أدى في النهاية إلى نزوح آلاف الأسر باتجاه صنعاء، فيما اتخذ مرتزقة التحالف من منازلهم ومزارعهم وأملاكهم غنيمة راحوا يعبثون بمقتنياتها، ويتخذون من بعضها مقرات لقياداتهم، تقول صالحة: “دخلوا كل بيوت القرية ودمروا كل شيء بداخلها. لم يتركون بيتاً دون أن يهجموا عليها، أو يخلعوا أبوابها وشبابيكها، حتى باب المسجد لم يسلم منهم”.
عين “الثورة”
خلال زيارة “الثورة” إلى مديرية نهم، مطلع الشهر الجاري، استطاعت عدستنا التقاط صور لبعض الدمار الذي خلفه الحلفاء ومرتزقتهم في قرى المديرية. كانت المنازل خاوية على عروشها، فيما تبيّن المخلّفات الصلبة التي تتكدّس بجوارها أن معظمها كانت مأهولة طيلة الفترة الماضية، غير أن من يقطنها هم مرتزقة التحالف وليس أصحابها، كما تظهره الكميات المتبقية فيها من الأغذية والمشروبات، إلى جانب ذلك تُظْهِر بقايا المقتنيات الأصلية للمنازل حجم العبث الذي مارسه هؤلاء المرتزقة بالأثاث والخزانات وغرف النوم وملابس النساء وأدوات المطابخ وحتى النوافذ والقمريات؛ إذ تبدو منهوبة بشكل كلي أو جزئي، بينما ما تبقى منها أصبحت نفايات تحكي مأساة الوضع الكارثي الذي أصبحت عليه قرى الوادي ومزارعه وحتى المدارس والمساجد.
يقول شايف النعيمي، من مشايخ قرى الوادي، إن “المرتزقة تمكنوا من دخول القرية بعد قصف مكثّف وعشوائي للطيران في العام 2016، حيث استُهدِفَت البيوت ودُمِّرت أكثر الممتلكات ونَزح الناس عبر الجبال والأودية”، ويضيف في حديث إلى “الثورة”: “عانى السكان كثيرا أثناء النزوح؛ فمنهم من تعرض للقصف في الطريق ومنهم من تأثرت حالته الصحية والمادية، خاصة من تركوا أموالهم وأغنامهم ومواشيهم وكل ممتلكاتهم، لينهبها الدواعش”.
نعجة صالحة
بحسب النعيمي، فإن “المرتزقة لم يتركوا بيتا أو مزرعة دون أن يكون لهم أثر فيها”، وهو ما تشير إليه المرأة المسنة قائلة: “كانت بيت النعيمي مقراً لقيادتهم لأنها مطلة على كل قرى الوادي”، أما المزارع فتقول عنها صالحة: “كانوا يسرقونها ولم نستطع فعل شيء”. وتعزو صالحة، في حديثها إلى “الثورة”، سبب بقائها كل تلك المدة في القرية رغم نزوح كافة السكان، إلى أنها تملك الكثير من الأغنام، وخوفها من عدم توفر المكان في صنعاء اضطرها للبقاء من أجل الرعي. لكن ثمة ما يضاعف معاناتها وآلامها، إلى جانب فقدان أسرتها، فحينما انتهى المرتزقة من سرقة مواشي القرية وصلوا إلى أملاكها، تقول أيضاً: “في البداية اختفت إحدى نعاجي. بحثنا عنها لكن لم نجدها، بعدها رأيت بيدهم نعجة أخرى يذبحونها ويذهبون لتحضيرها”، وتضيف بحرقة: “جزروها، الله لا يوفقهم”.
من جانبه يقول النعمي: “استهدف الطيران معظم منازل المنطقة”، ويشير بيده باتجاه القرى المطلة على الوادي ويضيف: “تلك البيوت في القرى المجاورة كما ترونها تعرضت للقصف (تظهر بنايات مدمرة)”، ويردف قائلاً: “تلك قرية العرقوب وهذه قرية الجبير وهذه سفال وادي ملح منطقة بيت أبو لحوم وهذه الجبال التي تحيط بها المنارة والقتب رشا، جميعها قصفت ونتج عن القصف قتلى وجرحى”.
استهداف النازحين
في الـ 17 من فبراير 2016، ارتكبت طائرات تحالف العدوان جريمة كان حصادها استشهاد 13 وجرح 7 آخرين من بيت واحد بينهم 11 طفلاً، حينما استهدفت الطائرات أسرة طارش النعيمي، من قرية الجبير في المحجر، عند خروجهم من منزلهم نازحين نتيجة القصف المكثف على المنطقة، تمام الثالثة فجراً، وعلى بعد أمتار من المنزل، وقتها أعلن ناطق حلفاء الشر، اللواء أحمد عسيري، أن الهدف كان عسكرياً وأن “الجريمة” انتصار لقواته.
لم تكن تلك الجريمة وحدها، إذ يقول شايف النعيمي لـ “الثورة”: “استهدفت طائرات العدوان أيضاً منزل رفيق الله النعيمي بثلاثة صواريخ، وكان أهله قد نزحوا إلى المزارع القريبة منه، لكن الغارات لحقتهم وخلفت فيهم إصابات بالغة، كما استهدفت الطائرات أسرة أحمد أبو علهان عند وصولهم وادي بران نازحين، وأسرة جميل النعيمي أثناء نزوحهم، فتدمرت سيارته وأصيب أفراد العائلة بجراح عميقة، إلى جانب استهداف أُسَر أخريات”، ويضيف: “في 1 أكتوبر 2016، اختطف مرتزقة العدوان المواطن مبخوت النعيمي واقتادوه إلى مقر استخبارات المنطقة العسكرية السابعة بالفرضة وأعدموه هناك”.
ممتلكات منهوبة
في وادي ملح أيضاً، استغل المرتزقة مزارع المواطنين النازحين لصالحهم من خلال استثمارها وسرقتها والانتهاء بتدميرها فيما أهملت بعض المزارع حتى ماتت معظم أشجارها، إذ أن من نزح من المنطقة لم يستطع العودة إليها من جور الممارسات التي يرتكبها المرتزقة بحق الساكنين. استطاعت عدسة “الثورة” التقاط بعض الصور لأجزاء منها، وخلال الزيارة كانت المنطقة خالية من أي صوت، لكأن الموت يخيم على الوادي والقرى المحيطة.
أسفل وادي ملح، كان النعيمي يتفقد منزل عمه والأغنام التي تركت فيه وقت النزوح. لم يكن في الحظائر أي منها، يقول: “لعلهم ذبحوها”. على بعد عشرات الأمتار تقع مدرسة المنطقة، التي اتخذ منها المرتزقة مطبخاً عاماً ومخزناً رئيسياً للتغذية، حيث تمتلئ فصولها بكميات كبيرة من البقوليات والأجبان والزيوت والخضروات، إلى جانب حلاوة الطحينية والعسل والتونة وأشياء كثيرة.
قهر ووجع
تلخّص صالحة سنوات بقائها في القرية التي انتهك الحلفاء كل ما بها قائلة: “كانت عيشتنا بينهم قهر ووجع. أربع سنوات ليس لنا صديق أو قريب غير ربنا”، ثم تبكي وهي تسأل النعيمي عن سكان القرية، إذا ما كانوا على قيد الحياة. تقول: إن المرتزقة نقلوا لها خبر ذبحهم لمبخوت وأخبروها أنهم ذبحوا الجميع. لم تكن تصدّق أن الذي بجوارها هو جارها وقريب زوجها، حيث اعادت التساؤلات أكثر من مرة وهي تقول: “أعرف أنك لا تكذب، لكن هل أنت شايف؟ وهل لا زال البقية أحياء؟”.
اليوم وبعد أن سلب المرتزقة ممتلكات القرية، عادت روح صالحة التي فقدتها منذ أربع سنوات، وخلال الأيام المقبلة ستعود الحياة إلى القرى المنكوبة وسيعود الناس مساكنهم، كما أكد النعيمي، رغم أن ما حل بها قد يصعّب مسألة التعرّف على ملامحها، حتى على سكانها الأصليين.
*الصورة للحجة صالحة والنعيمي ومدير التحرير بالإضافة إلى الكاتب.
تصوير: فؤاد الحرازي
عن:”صحيفة الثورة”