رامي الشاعر*
تحت هذا العنوان كتب المحلل رامي الشاعر في صحيفة ” زافترا” الروسية عما أسماه “عام الفرص الضائعة بالنسبة لسوريا”، وطرح رؤيته بشأن “يد واشنطن الخفية” التي تعبث بالمشهد السياسي العربي.
في الأشهر الأخيرة من العام الماضي، تلقيت العديد من الرسائل والتعليقات على مقالاتي حول قضايا الشرق الأوسط، التي لم تقتصر فقط على الدول العربية، وإنما جاء بعضها من مواطنين روس. اختلفت الآراء حول ما ذكرته بشأن القضايا السورية والليبية والفلسطينية، لكن معظم الآراء العربية وغيرها اتفقت على أن هذه القضايا تحتاج إلى حلول عاجلة. إلا أن ما أثار حفيظتي هو تلك الأصوات، وأغلبها في وسائل الإعلام العربية، التي تزعم أن مقالاتي ليست سوى عرض لوجهة نظر الكرملين، ولا تحمل في جوهرها إلا معلومات عن السياسة الروسية. لذلك فمقالاتي، كما يقولون، تعرض جانباً واحداً من المشهد، بينما تتسم الحياة السياسية في الشرق الأوسط بالتعقيد الشديد.
إن حقيقة التعقيدات الشديدة في الحياة السياسية في المنطقة لا تحتاج إلى تعليق. إلا أنها كذلك، وتؤدي أحياناً إلى صراعات عنيفة، داخلياً وخارجياً، لعدة أسباب، أهمها التدخل الوقح للناتو، وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية، في شؤون المنطقة. وهنا أود أن أستمع إلى رأي مستنير من خصومي: فهل يمكنهم أن يأتوا بمثال واحد في القرنين العشرين والحادي والعشرين، تسببت فيه قوة أخرى، بخلاف الناتو، ولنقل الصين أو روسيا، في تأجيج أحد الصراعات في منطقتنا؟ وهل يستطيع أحدهم أن يجزم، بما لا يدع مجالاً للشك، بأن قوة أخرى، بخلاف الناتو، تقف وراء تدهور الوضع في الشرق الأوسط؟ وإذا لم يكن الأمر كذلك، فما يمنعنا من الاستماع إلى آراء السياسيين والمتخصصين في العلوم السياسية الروس، بدلاً من رحلات الشتاء والصيف إلى بروكسل، تذللاً لمسؤولي الناتو، بحثاً عن الحماية والدعم؟
دعونا نرى ماذا يحدث في “الحياة السياسية المعقدة” ببعض الدول العربية. لقد كان العام المنصرم “عام الفرص الضائعة” بالنسبة للجمهورية العربية السورية. فعلى الرغم من أن الأزمة السورية قد بدت للحظة أنها ماضية في سبيل الحل، عقب المساعدة النبيلة التي قدمتها الوحدات العسكرية الروسية، وقوات الجنرال قاسم سليماني، وبعد تمكن الحكومة السورية من السيطرة على أكثر من 80٪ من الأراضي السورية بفضل روسيا وإيران، والحفاظ على السيادة، وبعد المجهودات الحثيثة من جانب الدبلوماسيين والعسكريين الروس والأتراك والإيرانيين للتوصل إلى اجتماع ممثلين عن حكومة بشار الأسد والمعارضة السورية حول طاولة المفاوضات، إلا أن الطرفين لم يتمكنا من المضي قدماً صوب سلام دائم وإقرار دستور جديد للبلاد، وألقي باللوم هنا على الطرفين.
في الوقت نفسه، ولسبب ما، يلقون باللوم على روسيا. ألم تقدم روسيا أكثر مما قدمته كل البلدان الأخرى في التوصل لموقف موحد يرضي جميع الأطراف، ألم تبذل كل ما بوسعها من تقديم متخصصيها، بل ومنصاتها لتنظيم مفاوضات نزيهة، يجلس فيها جميع الأطراف على قدم المساواة؟ فماذا كانت النتيجة؟ لا يرغب أي طرف من الأطراف في التنازل عن قيد أنملة من مواقفه، ولا يقبل حجج الطرف الآخر. والثمن يدفعه كالعادة الشعب السوري، الذي يمزّقه العداء. فمن يمكن أن نلوم في ذلك سوى أنفسنا؟
وحول القضية الليبية. توفر روسيا مرة أخرى منبراً للمفاوضات، وتقنع الأطراف المتصارعة بالتوصل إلى حلول وسط معقولة، بل وتساعد على إيجاد صيغ مقبولة للطرفين. تتعقد القضية الليبية على نحو خاص، لكون الأمم المتحدة لا تعترف سوى بجانب واحد من جانبي الصراع الليبي، وهو حكومة فايز السراج. وقد حاولت روسيا وتركيا حلحلة العقد بين الطرفين، بتنظيم لقاء بين السلطة المعترف بها والمشير خليفة حفتر، وتم اللقاء على أمل أن يسود منطق العقل، ويتوصل الطرفان إلى اتفاق.
فماذا كانت النتيجة؟ وقّع أحد الطرفين على الاتفاق، أما الطرف الآخر، وتحديدا المشير حفتر، أعلن في اللحظة الأخيرة عن رفضه القاطع للتوقيع، مشيراً إلى حاجته للتشاور مع مؤيديه. بعد بضعة أيام، عاود حفتر مناشدة الرئيس الروسي لاستئناف المفاوضات برعاية روسية، لكن إمكانية التحرك السريع صوب السلام كانت قد ضاعت، ولو إلى حين. بقي الأمل منعقداً على لقاء برلين، الذي التقى فيه، خلاف طرفي النزاع، تركيا وروسيا وممثلين عن الاتحاد الأوروبي والأمين العام للأمم المتحدة. ويأمل المواطنون الليبيون وأصدقاؤهم حول العالم بإيجاد حل للأزمة، لأن سيادة الأهواء والطموحات الشخصية بديلاً عن النهج العقلاني، سوف يؤدي إلى زيادة في مشكلات اللاجئين، والمعاقين، والأيتام، والأسر بلا معيل، وكذلك زيادة تدفق اللاجئين إلى أوروبا يوماً بعد يوم.
والعراق، غالباً ما تجد أحد الطرفين يرفض اتفاق السلام في اللحظة الأخيرة. وكأنما هناك يد خفيّة، تحركها قوى سحرية، توقف أحد الأطراف في المفاوضات، وتؤثر عليها بفكرة إفشال المفاوضات. وهذا يحرم الشعوب من حقها في حياة آمنة كريمة.
في واقع الأمر، ليس هناك سحر في الأمر. وإنما هي يد واشنطن. يد تحمل ملايين الدولارات، التي تشتري بها العملاء والمتواطئين والسياسيين والمواطنين الخونة، وتحمل كذلك سوطاً تهدد به أحد الأطراف التي تشارك في المفاوضات. سوط يتجسد في أشكال متعددة. فأحياناً ما يحمل تهديداً بالانتقام الجسدي، وأحياناً بالابتزاز (“فكّر في أبنائك الذين يدرسون في الولايات المتحدة الأمريكية” أو “سنترككم بلا فلس واحد”)، وفي كثير من الأحيان يحمل وعوداً سخية، بالدعم السياسي والمالي، وتأكيدات على أن هذا السياسي أو ذاك سوف ينال رعاية ودعم واشنطن. وكل ذلك تصاحبه حملات إعلامية في الإعلام الغربي والعربي. هذه هي الصعوبة الرئيسية للحياة السياسية في الشرق العربي.
ليست تلك ألعاب سياسية، ولا مناورات لقوة عظمى. إنه برنامج عسكري-سياسي محدد للناتو، صمم لسنوات عديدة، ولديه خطة واضحة لتنفيذه. ولكل ضحية مكانها. احكم بنفسك عزيزي القارئ: يعبّر ملك الأردن، الملك عبدالله، بطريقة أقرب للغموض، عن دعمه لـ “صفقة القرن”، وهو ما يعني أن عليه أن يحسب حساب قوى تتنامى في الداخل الأردني، ويمكن أن تصبح قادرة على تهديد عرشه وبلاده، إذا لم ينضم إلى جوقة حلفاء الولايات المتحدة الأمريكية.
بعبارة أخرى، يجرى الآن الإعداد لهجوم واسع النطاق على حقوق الشعب الفلسطيني، والغرب قد وضع للأردن دوره الخاص في ذلك. فالناتو يستعد بكل ثقله وأدواته للانقضاض على الشعب الفلسطيني، فيبتز ويحاصر السياسيين الفلسطينيين، حتى ينصاعوا لضغوطه. أما إسرائيل فقد صرحت فعلياً عن اعتزامها التعامل بنفسها مع خصومها في المنطقة، نظراً لعدم رغبة الأمريكيين دخول حرب في الشرق الأوسط. ألفت عناية القارئ أنني لا أحاول إقناع أبناء جلدتي بأي موقف، وإنما أطلب منهم فقط النظر إلى الواقع وجهاً لوجه، وإدراك ما يحدث الآن في الوطن العربي.
ما يثير الاهتمام، هو أن الغرب لا يعتبر أنه من الضروري إخفاء جوهر أهدافه فيما يتعلق بالعراق ولبنان وسوريا وغيرها من البلدان. فهم يريدون تقسيم العراق إلى ثلاثة مناطق: شيعية وسنية وكردية. وبالطبع سوف يكون التعامل مع دول صغيرة أسهل بالنسبة للناتو من التعامل مع دولة موحدة. سوف تكون تلك الدول، بطبيعة الحال، تابعة لحلف الناتو، وستضطر لأن تكون معارضة لإيران. ولهذا السبب، وعلى الرغم من كافة وعودها للمجتمع الدولي، فإن الولايات المتحدة الأمريكية لن تسحب قواتها من العراق. ومن هنا الاستنتاج: يجب على الشعب العراقي أن يدرك أن انقسام بلاده يصب في مصلحة أعدائه، وليس في مصلحة أصدقائه، وقوة الشعب إنما تكمن في وحدته، ودعم أصدقائه الحقيقيين لبلاده. وتلك ليست مهمة الغد، وإنما هي مهمة يتعين الشروع فيها فوراً!
يزداد الوضع اللبناني سوءاً يوماً بعد يوم. وفي بيروت، شنّت عناصر متطرفة معركة حقيقية مع الشرطة، ونفذت عمليات تخريبية. وتحولت عاصمة البلاد، التي كان يزورها في السنوات الأخيرة ملايين السائحين من الخارج، إلى ساحة مواجهات مع الشرطة.
لقد زرت بيروت المثخنة بالجراح، والتي عانى سكانها مراراً من حصار وضع أمني، تتصارع فيه الطوائف والقوميات في العاصمة وبطول البلاد وعرضها. وكان العالم، في منتصف السبعينيات من القرن الماضي، شاهداً على الحرب الأهلية المأساوية في لبنان، التي تسببت في دمار البلاد، ومقتل جزء كبير من جيل الشباب.
إنهم يريدون أن يصبح لبنان من جديد إقطاعية غربية، على حساب قتلى جدد، ودمار جديد. الحق أن دول الناتو ربما لم تنس أن أبطال المقاومة هم من أجبروا الأمريكيين والفرنسيين على مغادرة البلاد، ودفعوا حياتهم ثمناً لذلك. فقد انفجرت سيارة واحدة عام 1983 أمام السفارة الأمريكية وأودت بحياة 63 شخصاً، كان ثلثهم تقريباً من وكالة المخابرات الأمريكية. ثم اقتحمت سيارة أخرى إحدى ثكنات المارينز وانفجرت، وأسفرت عن مقتل 270 أمريكياً. ثم انفجرت سيارة في قاعدة المظليين الفرنسيين، وخلفت 58 قتيلاً.
أعتقد أن هذه الذكرى هي ما تجعل الناتو يفضل اليوم أن يقتل اللبنانيون بعضهم بعضاً. ولهذا الغرض، يشنّ الناتو حرباً مختلطةً ضد الشعوب العربية، باستخدام “القصف العنيف” للراديو والتلفزيون اللبناني، ويعيد إشعال الكراهية بين الطوائف والمجتمعات. أود هنا أن أذكّر: أن الأوضاع في المنطقة كانت هادئة نسبياً قبل أن تتدخل الدول الغربية في شؤون المنطقة، وتفرض داعش على سوريا والعراق. ولم تكن المقاومة الشعبية تسمح بدخول داعش إلى لبنان، وأغلقت كافة الممرات، ويجدر أن يتذكر الشعب اللبناني ذلك. فلبنان، في واقع الأمر، هي أكثر الدول العربية عرضة لتصبح من بين ضحايا داعش، وضحايا الإرهاب بكافة أشكاله وأنواعه.
لا شك أن بإمكان الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها في الناتو، التأثير على الوضع الاقتصادي في بلدان الشرق الأوسط، باستخدام أدوات الضغط الاقتصادي، خاصة في الدول الصغيرة، وتلك التي لا تمتلك موارد من الصادرات، وهو ما يحدث حالياً في لبنان. وفي وسائل الإعلام اللبنانية يتم تداول أخبار زائفة باستمرار، أخبار صنعت خصيصاً في مراكز الدعاية وراء المحيط. وجوهر كل هذه الأخبار واضح: إلقاء اللوم في كل المشكلات على “حزب الله”.
قيل لي أن منظمي الدعاية، ممن تعلموا في الغرب، ومساعدوهم المحليون يمارسون دعايتهم وسط اجتماعات التجار وسائقي سيارات الأجرة والمؤسسات المحلية الصغيرة. والهدف من وراء ذلك كله: التسبب في مواجهة، يفضل أن تكون مسلّحة، بين الطوائف المختلفة. حيث يأمل من يقومون بتنظيم فعاليات كهذه أن يتسببوا في سلسلة تفاعلات عنقودية، يمتد أثرها لسوريا المجاورة.
الفكرة أن تعنّت أطراف الحوار السوري، يدفع حلف الناتو للتفكير بأنه لا زال قادراً على دفع عجلة الزمن إلى الوراء، والسيطرة على سوريا وثرواتها الطبيعية. وهذا العناد، الذي شرحت ظروفه آنفاً، يمكن أن يؤدي إلى أخطر العواقب. فجزء كبير من الفاعلين في المعارضة قد انفصلوا منذ مدة طويلة عن الشعب، الذي يحيا في البرد والجوع. في الوقت الذي تعيش شخصيات معروفة من المعارضة، كما يبدو لي، في ظروف مريحة للغاية، لا تدفعهم دفعاً نحو اتخاذ قرارات حاسمة ومصيرية على الفور. أما الرعاة والممولين الأوروبيين، لبعض هذه الشخصيات، فهم بطبيعة الحال ليسوا في عجلة من أمرهم.
لكنني أناشد جميع شخصيات المعارضة والحكومة السورية مواجهة ضمائرهم: هل بذلوا كل ما بوسعهم للتوصل لاتفاق سلام وتوافق وطني؟ هل ينامون ملء جفونهم، بينما يعاني الأطفال السوريون، مما لا يستطيع الكبار تحمله؟ وسؤال آخر أود طرحه على المعارضة والحكومة السورية على حد سواء: هل يرغبون في عودة الحرب الشنيعة التي يقتل فيها الأخ أخاه، والتي استمرت على الأرض السورية أطول من استمرار الحرب العالمية الثانية؟ فلتفكروا فقط في الآتي: لولا مساعدة القوات الروسية وفيلق “القدس”، ولولا عملية أستانة، لما كانت هناك دولة تدعى سوريا على خريطة العالم اليوم. وتلك ليست خيالات افتراضية، وإنما استنتاجات توصل إليها المحللون السياسيون!
بالطبع، فلا أحد يمكنه التنبؤ بالمستقبل، ولكن يمكننا تقييم الوضع الراهن بوعي والإدلاء ببعض التوقعات. أقول إنه إذا لم تتوصل الحكومة السورية والمعارضة إلى حلول وسط، وإذا استمر التعنّت ورفض مواقف الطرف الآخر مسبقاً، فمن غير المرجح أن تعقد انتخابات في الجمهورية العربية السورية حتى في العام المقبل. وفي هذه الحالة، ينتظر سوريا حصار اقتصادي، وعقوبات جديدة، وتدهور حاد في حياة المواطنين العاديين. أي أن إدخال التعديلات الدستورية وتنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 2254 هو ضرورة حتمية، وبدون ذلك ستواجه الحكومة السورية سلسلة طويلة من المهام المستحيلة.
من بين أصدقائي في سوريا، مؤرخ لديه أرشيف ضخم وقيّم للغاية، يمكنك فيه العثور على بيانات حول الأحداث السياسية والمفاوضات في جميع أنحاء الشرق الأوسط للسنوات العشر الأخيرة على أقل تقدير. ويؤكد صديقي أنه من الممكن تتبع مراحل أداء عدد من السياسيين، في جزء كبير من هذه الفترة، يسميهم “محترفو الدمار”، وبصرف النظر عما إذا كانت واشنطن قد اشترتهم، أو كانت تصرفاتهم بناء على مصالح وطموحات شخصية، فإن مهتهم هي تدمير أي توافق ناشئ، وتقويض أي محاولات تفضي إلى السلام، ومنع التوصل إلى أي اتفاق. يصل عدد هؤلاء في الوطن العربي، وفقاً لصديقي المؤرخ، ليس أكثر من 50 شخصاً، إلا أنهم سياسيون فاعلون، يقعون أعلى الهرم السياسي في عدد من بلدان المنطقة، ولديهم قدرة تدميرية فائقة، لأنهم في جميع الأحوال يحصلون على دعم الناتو والولايات المتحدة الأمريكية في المقام الأول. فغياب التوافق أو المصالحة أو التهدئة دائماً ما يصبح ذريعة مناسبة للتدخل في شؤون دول الشرق الأوسط.
50 شخصاً فقط في العالم العربي بأسره! لكن، أي شر يجلبون، بينما يسعون هنا وهناك لسفك الدماء. ينزف اليمن لمدة طويلة، ويقتل مئات الآلاف من السوريين في سنوات الحرب الأهلية والمعارك مع داعش، يقتل ملايين العراقيين، ويموتون بسبب المرض والجوع، ويتشوهون. لكن كل ضحية في الشرق الأوسط يقابلها ارتفاع في حسابات وأرباح المجمع العسكري الصناعي في الغرب. لقد حان الوقت كي نفهم نحن العرب، أن إزهاق روح أي شاب عربي بالنسبة للغرب، وخاصة بالنسبة للناتو، يقاس بالسنتات، وأن كل برميل نفط يقاس بالدولارات. وإذا كان الأمر غير ذلك، لما كان الناتو ليتدخل في شؤوننا.
في الوقت نفسه، كان من الممكن تجنب العديد من الأحداث، إذا كنا تكاتفنا معاً، استناداً إلى تاريخنا، وإيماننا، وتعاطفنا مع مصائب أخوتنا، وشرعنا في التصدي للمشكلات المشتركة أو تلك التي ستصبح عاجلاً أو آجلاً مشتركة.
من بين هذه المشكلات نمو التسليح في المنطقة، زيادة عدد القواعد الأجنبية في المنطقة، وجود أساطيل أجنبية تحمل على متنها أسلحة نووية، النزاعات الإقليمية على أسس قومية ودينية وجغرافية تاريخية وغيرها. إننا لا نريد أن يحل مشكلاتنا دول الناتو، الذين كثيراً ما لاحظنا تصرفهم حيالها، مثل فيل في متجر الخزف الصيني. وإذا كان الأمر كذلك، فلابد من عقد مؤتمر عام للدول العربية، يتعين فيه على الدول العربية أن تعلي من شأن ودور جامعة الدول العربية، وتحميلها بوظائف إيجاد الحلول السياسية لصالح كل دولة، وكذلك وظائف حفظ السلام.
لقد حدث ذلك من قبل في التاريخ، إلا أنه لم يعد فعالاً بما فيه الكفاية. فإنشاء وحدة لحفظ السلام، تتكون من الدول التي تتمتع بقدرات عسكرية ذات شأن، ليست مهمة كبيرة. لكن الأصعب بكثير، هو ألا تتحول قوة حفظ السلام العسكرية إلى شرطي المنطقة، دون النظر إلى حقوق الشعوب وإرادتها، وتنمية حرياتها، وانتخاباتها الحرة النزيهة لاختيار طريقها للتنمية.
إن للدول العربية الحق والإمكانية أن تقرر مصيرها دون تدخل من الناتو وقوات الاحتلال. لدينا في المنطقة خبراء رائعون في مجالات الاقتصاد، والهندسة، والنفط، والجيولوجيا، وغيرها. نفتقد فقط مجلساً استشارياً للدول العربية، يستطيع أن ينصح الساسة والاقتصاديين بكيفية تجنب الأزمات الجديدة والمشكلات الخطيرة.
كنا نظن أن زيادة مشكلات الحرب والسلام قد تقود العرب نحو اليقظة، والتخلص من الصبيانية السياسية، والإدراك الواقعي لحقيقة أن القواعد الأجنبية، واللعب بالنار، الذي تقوم به الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها، تهدد دائماً بالمواجهة، وهو ما يعني أولاً وقبل كل شيء نزع فتيل الحرب، من خلال التخلص من وجود قوات الناتو، وبدء مرحلة جديدة من التفاهم بين بلدان المنطقة: علاقات التعاون الإقليمي والأمن الجماعي بما يخدم جميع بلدان الشرق الأوسط. إلا أنه، وبدلاً من ذلك، نرى العكس تماماً: فتطلب المملكة العربية السعودية من الولايات المتحدة الأمريكية زيادة أعداد القوات الأمريكية في البلاد، والتي تدفع مقابلها السعودية نصف مليار دولار، في الوقت الذي تذهب فيه حاملة الطائرات الفرنسية إلى الخليج، لتقوية المجموعة الفرنسية هناك. فماذا نسمي ذلك سوى أنه استمرار في اللعب بالنار؟
هناك مزحة قصيرة سوداء: “يصيح بوب: مرحباً ماري! بينما كان يشعل سيجارته بجانب برميل البنزين. كان المرحوم يبلغ من العمر 25 عاماً”. هناك أشياء قاتلة. وعلينا نحن العرب أن ندرك هذه الحقيقة البسيطة.
ذلك أنه إذا ما اشتعلت نيران الحرب الفظيعة في منطقتنا، بصرف النظر عمن أشعلها أو كيف وبماذا اشتعلت، فسوف يكون قد فات أوان الندم على الفرص الضائعة للحفاظ على السلام في المنطقة. فمن إذن يلوم العرب سوى أنفسهم؟
أرى أن قصر النظر السياسي، وعدم القدرة على ترتيب الأولويات، والعجز عن الاتفاق مع الجيران والدول العربية الأخرى، ونقص الخبرة حتى في التوصل إلى موقف واحد بشأن قضية تعاني منها إحدى الدول العربية هي ملامح المؤسسة السياسية الحالية في كل الدول العربية تقريباً. وفي ظل هذا الوضع، هل يمكننا الحديث عن أي علامات على الوحدة العربية أو محاولة تطوير مواقف متقاربة من القضايا الدولية؟ بل إنني أعتقد، علاوة على ذلك، أنه على خلفية هذه الظروف، لا تستطيع أي دولة عربية المشاركة في التوقيع على أي اتفاقية دولية، تحدد مصائر الشعوب والمنطقة. وهو ما بدا جلياً في تناثر وجهات النظر لعدد من الزعماء العرب حول الحرب في ليبيا. لهذا السبب تعمدت أعلاه عدم الإشارة لحضور بعض الدول العربية لمؤتمر برلين بشأن ليبيا، لأن حضورها بهذا السياق العربي الراهن ليس له أي تأثير على الخطوات الدولية التي سيتم اتخاذها للمساعدة في إنهاء الأزمة الليبية. فلا يوجد في الوقت الحالي، مع الأسف الشديد، أي هيبة أو احترام لأي دولة عربية في ضوء وضع الملايين من الشعوب العربية في الظروف الكارثية التي يعيشونها على مرأى ومسمع من العالم أجمع.
إن كل ما سبق، بالإضافة إلى تجربة اجتماع برلين، يؤكد مرة أخرى أن بلداننا، شأنها في ذلك شأن جميع دول العالم، يجب أن تسعى جاهدة لتعزيز سلطة مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة ومنحه مزيداً من الحزم في تنفيذ جميع القرارات المتخذة. من الضروري إعادة عجلة التاريخ إلى الوراء، والسعي لا إلى تفاقم الوضع في منطقتنا والعالم بشكل عام، وإنما إلى تحسين الوضع. وتلك هي مصلحة كل عربي.
- الكاتب والمحلل السياسي