رأفت حكمت
تعتبر اللّغة العربية أوسعَ اللّغاتِ مدىً، وأغزرهنّ مادّةً، وأوفاهنَّ بالحاجة الحقيقية من معنى اللّغة، لكثرة أبنيتها، وتعدّد صيغها، ومرونتها على الاشتقاق الّذي يمنحها انفساحاً إلى ما يستغرق اللّغات بجملتها، حيث أن المُستعمل منها لا يتجاوز ستة آلاف تركيب، وإذا رددنا الثلاثي منه وما فوقه إلى التركيب الثنائي، لم يكد يزيد ما يخرج منه على ثلاثمئة لفظة .
وهي أيضا في الكفاية سواءٌ، أكانت لغة الطبيعة البدوية الّتى تُلقى على ألسنة البدو الذين هم الجزء الصّامت من الطبيعة، أو أنّها لغة الحياة المنبسطة الّتي تصرّفها الألسنة والأقلام في مناحٍ شتَّى.
وإنّ صمت الطبيعة البدوّية في حقيقة الاعتبار، هو جزءٌ متمّم في المعنى للغة أهلها .
العربيّة لغةٌ حيّة
لا يخفى علينا أنّ حياة اللّغة وموتها، أمران يؤخذان بالاعتبار، فاللّغة الحيّة هي التي تكونُ مُشايعةً بأوضاعها لكلّ ما يَجِدُّ من مستحدثات الحياة، وهي بذلك فيما تدَعُ وتأخذُ كأنّها تتنفّس، والتّنفّس أوّل صفاتِ الحياة .
وقد عرّفوا الحيَّ ، بأنّه الكائن الّذي ينمو من باطِنهِ، لذلك بقيت العربيّة في نفسها على مرونتها الأولى، حتّى يُتاح لها أقوامٌ يستحدثون فيها، وتُقيَّض لها أقلامٌ تتفنّن في وضعها .
طرق الوضع في العربيّة
إذا تدبّرنا المأثور من ألفاظ اللّغة، لوجدناه في الجملةِ لا يخلو من ثلاث:
إمّا أنْ يكون مُرتَجلاً، أو مشتقّاً، أو منقولاً على وجه من وجوه المجازِ، إذ يُعتبر الأخيرُ جمالُ اللّغة، والاشتقاق قوّتها، والارتجالُ تركيبُ الخلقة فيها، ويندر أن نجد ذلكَ كلّه في لغة من اللّغات على مقدار ما نجدهُ في العربيّة، فلا جَرَمَ كانت حريّةً بأن تكون مناط الإعجازِ، لأنها الخلقة اللّغوية الكاملةً .
الارتجال
ووضع اللّفظ بتقليدِ الطبيعة كما مرّ في موضعه، شرطَ ألّا يبقى أيُّ وجهِ للزيادةِ على ما تمّ ارتجالهُ، فيُتركُ المُستكرَهُ المبذوءُ مما يتعتع به اللّسانُ وينبو عنهُ السّمعُ .وهذا كلّه يجري ضمن الارتجالِ الّذي تُراعى فيه النّسبة بين اللّفظ الموضوع والمعنى الموضوع لهُ .
أمّا فيما عدا ذلك، فإنَّ العربَ كانوا يتصرّفون في لغتهم، فيرتجلون ألفاظا قليلة ليست فيها، ولا هي مأخوذة بالاشتقاق، فقد يتفّق لأحدهم أن يضع كلمة يرتجلها لمعنى من المعاني عن طريق التّظرّف والتّملّح، فلا تلبث أن تشيع وتصير من أصل اللّغة .
ويقول ابن جّنّيٍّ فيما معناهُ: “يجبُ قبول اللّفظ المرتجل إذا ثبتت فصاحتهُ، لأنّه إمّا أن يكون مأخوذا عمّن نطقَ به بلغة قديمة، أو شيئاً فعلا مُرتجل .
أمّا لو جاء ذلك عن مُتّهمٍ لم تَرْقَ به فصاحته، فإنَّ المُرتَجَلَ يُردُّ ولا يُقبَل” .
الاشتقاق
تعتبرُ المُناسبة في المعنى والمادة، هي الأصلُ في الاشتقاق، ولولا تحقق هذه المُناسبة، لما أمكنَ الواضعَ للاشتقاق أن يشتق لفظاً من لفظ .
وقد ذهبَ بعض العلماء الّذين استَقرَوا تراكيبَ اللّغةِ إلى أن الأصل الّذي تمَّ الاشتقاق عنه، يكون مستصحب في كلّ تركيبٍ، بحيث لا يخلو الأخيرُ ممّا يُرجعه إليه ولو تأويلاً من طريق المجازِ .
إلّا في حالاتٍ يكون فيها اللّفظُ مُبدلاً من لفظٍ آخر، أو مقلوباً عنه، أو داخلاً في تركيبِ المادّة من لغةٍ أُخرى .
ونقلوا عن بعضِ المعتزلة، فيما يخصّ الحالة الأخيرة، أنَّ بين اللّفظِ ومدلوله مناسبةً طبيعيّة حاملةً للواضع على أن يضعَ، وكان بعض من يرى هذا الرّأي يقولُ: إنّه يعرف مُناسبة الألفاظ لمعانيها، فسُئلَ: ما مُسمّى “إذغاغ”؟ ويعني “الحجر بالفارسيّة”، فأجاب: إنّي أجدُ فيه يبساً شديداً، وأراه حجر .
وَلو استقرينا تراكيبَ اللّغة كلّها لوجدنا مواد كل تركيب، ترجع إلى أصلٍ واحد، ولو تأويلاً من طريق المجاز .
ومن هذه الأمثلة:
أنَّ تراكيب (الهمزة مع الباء) تدلّ على النّفور والبعد والانفصال .
أَبَّ / للسيرِ ، وأَبَتَ اليومُ / اشتدَّ حرّه فقطع النّاس عن أشغالهم، أبَدَ الوحشُ / نفَرَ، أَبرَ النّخلُ / قطع شيئا منهُ، وأَبزَ الظّبيُ / وَثبَ وانطلق، أَبَقَ العبدُ / فرَّ … إلخ ..
الألفُ مع الزّاي ، تدلّ تراكيبها على الضّيقِ في الأمر .
يُقال: أَزَر المجلسُ / ضاق، وأَزق الرّجل / ضاق صدرهُ، أزى الظّل / قلص وضاقَ ..الخ
وللزّيادة فإنَّ الباء مع الذال، تدل تراكيبها على إخراج الشيءِ، نحوَ بَذِيَ / أخرجَ الفُحشَ في كلامهِ، بذحَ وبذلَ / أعطى فأخرج ماعندهُ، … إلخ
إلّا أنَّ التّنويه واجبٌ إلى أنَّ الرّواة أغفلوا كل ما بتعلق بالجهات التاريخيّة في اللّغة، فلا جَرَمَ انثلمت سلاسل الاشتقاق وضاع كثير من تلك الأنسابِ، إلّا ما تدلُّ عليهِ مُشابهاتُ الخلقة اللّفظية، وهو ما يُعرفُ بالاستقراء.
المجاز
وهو الوضع الأخير في اللغة، لذلك تكون مراعاة المناسبة (بين اللّفظ الدّال والمادّة المدلول عليها) في أضعف وجوهها، حيث تبلغُ المناسبة آخر حدودها في المجازِ، وهذا ما يؤكّدُ أنّ اللّغة كلّها حكاية للطّبيعة .
والمرادُ من المجاز، التّوسّع في الحقيقة، لأن الألفاظ الحقيقية تمضي لسَنَنها المعروف، فلا يبقى ثمّة وجهٌ لتقوية الحقيقة المرادة منها بالاتّساع أو التّوكيد أو التّشبيه، وليس يخفى على أحد، أن الحقيقة الواحدة تتنوع في معناها على درجات من الضّعف والقّوّة .
نقول في التّوكيد: فلان أسد / إذ نريد إثبات شجاعته بدرجة متناهية مؤكّدة، وفي التّشبيه نقول: فلانٌ على جناح السفر / إي لا يلبثُ أن يسافر، كأنّه طائر بسط جناحه .
ومدارُ ذلك كله يكون على التوسع في المثال الحسي إذا ضافت به الحقيقة المألوفة في التّعبير .
فالمجاز صنعة حقيقية في اللغة، لا تتهيّأ إلّا بعد استكمال الشعوب أسباب النّهضة الاجتماعيّة من المخالطة، واقتباس بعضهم عن بعض، واعتبارهم أنفسهم في أمر اللّغة مجموعا معنويّا، فينصرفون إلى تشقيق الكلام وتتبّع أظلال المعاني في أجزائهِ، حتّى تتّسع لغتهم .
– الجهاتُ الّتي اتّسعت فيها العربيّة
إنّ الوضع بالمجاز يعتبر اشتقاقاً معنويّاً، فما لم يتهيّأ للعرب أخذَه من طريق الاشتقاق، أخذوه بالنّقل من طريق المجاز، وبذلك وسّعوا لغتهم في أربع جهات :
الأولى:
الإكثار من الألفاظ، وتعدّد الوضع الواحد تفنّنا في التّعبير .
حيث تسمّى الخوذةُ بالبيضة ( وهي بيضة النّعام بعد أن يخرج منها الفرخ)، مثلا .
الثانية:
التّذرّع إلى الوضع فيما لم يوضع له لفظ من المحسوسات، كأن نسمّي بياض العين بالكوكب، وغضروف الأذن بالمحّارة، وساق الشجرة وإبط الوادي وما إلى ذلك ..
الثالثة:
التّذرّع إلى الوضع لتمثيل صور المعاني، كأن نقول: نبض البرق (إذا لمعَ خفيفاً) من نبضان العِرقْ، وَرَنَّقت السّفينة (إذا دارت في مكانها دون أن تمضي) من ترنيق الطّائر (أن يخفق بجناحيهِ ويرفرف ولا يطير) .
الرابعة:
الرّمز إلى حقائق المعاني، كقولنا: سافرَ ولا ظهر لهُ / أي لا دابّة يركب ظهرها، وفلان يملك كذا رقبة / أي كذا عبداً.
وتُعتبر هذه الجهات هي الجامعة لأنواع المجاز، وكل ما يحمل على هذه الأنواع .
نهايةً، وعلى الرّغم من كلّ هذا ، فإنّ بعض العلماء يذهبون إلى أنّ اللّغة كلّها حقيقة، فيذهبون فعلاً إلى أنَّ تسمية الرّجل الشّجاع بالأسد هي لغةٌ لقومٍ ما، وتسمية الحيوان المفترس بالأسد، لغةٌ أُخرى.