(1-2)
محمد ناجي أحمد:
“نبراس قمر” رواية لـ”سمير عبدالفتاح”، صادرة بطبعتها الأولى عن دار راشد للنشر، 2019م، وهي تقع في 214 صفحة.
بلغة متماسكة وواعية تنمو الحكاية والحرب وقلق الذات المرتحلة بحثاً عن يقين علها تستكين إليه، وتصل إلى غايتها، لكنها الحياة/ الحرب/الغربة، يقينها باستمرارها، واستكانتها في توقدها، وموتها في انطفاء جذوتها.
وللحرب في تأججها طرق تكاد أن تكون قوانين تمضي دوماً في تكرارها، يكفي أن تقصف قرية عن طريق الخطأ المقصود، لتنتقل القرية من حيادها إلى وقود لها وبها “من قصف القرية وإدخالها في الصراع كان خطأ، وزاد الخطأ بعدم معالجته، وتوضيح سببه، وتعويض الأهالي.وهذه الأخطاء هي التي تطيل من عمر الحروب، وتُدخل أناساً جدداً في صراع لا علاقة لهم به…أو على الأقل كانوا غير راغبين في الدخول فيه.
عدد من سكان القرية انضموا للجبهة بعد تلك الحادثة” (ص108).
هي الحرب، وهم اليقين، وحقيقة الزيف، يطفو فيها أسوأ ما فينا “المشكلة في هذه الحرب اعتقادنا أن ما نفعله يجعلنا حقيقيين، لكننا نكتشف بعد سنوات أن ما فعلناه جعلنا أسوأ” (ص202).
وهي الحرب في وجه آخر لها “تصهر وتُذيب الزيف، ولا تبقي إلاَّ الحقيقي منا، لكن ما يدرينا أن ما تظهره الحرب حقيقي، فربما كان هناك حقائق أكبر تختفي تحته؟! ونحن نحتاج إلى نار أقوى وأكبر تُصهرنا وتذيب ما يختفي من الزيف، ويظهر الحقيقي منا” (ص210).
هل هناك حقيقة أحادية للإنسان هي ما تظهره الحرب، أم أن الحرب تميت الحقائق لتبقي ما هو متفحم فينا، تنتزع منا روح الحياة وطراوة التعايش، لتبقي المتوحش، وجفاف المعنى، ومقصلة الأوهام التي تتناسل طردياً مع الحرب، أو أنها والحرب تخليق متبادل للهوام وانعدام اليقين “نحن هوام، وأفكارنا هوام أيضاً.لا يوجد يقين نستطيع إمساكه بأيدينا، نستطيع أن نريه للآخرين…” (ص204).
في البدء ننغمس في غواية الحرب، تحقيقاً لهوية من الهوام، ثم تخبو جذوة الحرب حين نتعايش مع الدماء والجثث المتناثرة، نتعود على موت الازهرار فينا “التعود على الأشياء يغير قناعاتنا، كثرة التعايش تجعلنا مزيفين، وكما قال “سالس” نحن أوعية نمتلئ بما يوجد حولنا” (ص134).
في البدء يقين القضية التي تتناسل انطفاء الروح فينا، وفي المنتهى نتحول إلى مجرد ماكينة قتل يومي “لماذا لا أزال أمشي على هذه الأرض، وأحمل سلاحاً لا يخصني، وأقاتل أشخاصاً لا أعرفهم؟!” (ص201).
مع استمرار ماكينة الحرب لا يموت الإنسان فينا فحسب، بل الحقيقة تصبح رديفاً للحرب، الحرب هي اليقين الذي يزيح كل يقين آخر، تصبح غاية بذاتها “لذا بدأت أوقن أنه لا توجد حقائق مع الحرب.
الحرب بحد ذاتها هي الحقيقة الإنسانية الوحيدة، وما عداها مجرد رتوشات تسمى الحياة…” (ص202).
قلق اليقين وانعدام الحقيقة يظل يتراوح في هذه الرواية، التي تبدأ أولى صفحاتها بعتبة تقول: “لم نكن حقيقيين هذه المرة أيضاً”، كأن الحرب كحقيقة وحيدة ليست سوى زيف، يحرق أجمل ما فينا!
قلق العبور من البحر “قبل سنوات، عبر البحر، وهو ينتظر اليوم الذي سيعبر البحر مرة أخرى” (ص8).
لا يابسة، لا حقيقة قارية، إنها رحلة إلى ما وراء البحر، وما وراء البحر هي الحرب، بعيداً عن الحياة والتصاقاً بالموت.
بعيداً عن صوت الله فينا، قريباً من صوت الرصاص ورقصة الحرب، بعيداً عن المستقبل الذي تصنعه بصيرتنا، قريباً من مستقبل غامض ومبهم؛ يتشكل من تمتمات عرافة عجوز، لا تقول شيئاً سوى أنها الصدى لأرواحنا التي تصعد منها رائحة الموتى.
المرأة في هذه الرواية، نبراس/قمر، ليست معادلاً لجذوة الحياة المنطفئة فينا، تلك التي نظل نتوق إليها، ولكنها بعيدة عنا، تحجبنا عنها الحرب، وصوت رصاصة قناص!
هذه الرواية ليست بحثاً عن “حمود عبده المقشنن”، الذي ترك قريته، عابراًالبحر، إنها بحث في الحرب، معالجة الحرب عن طريق السرد، الاقتراب من حقيقتها الغامضة، وعبثها باليقين، تحويلها الإنسان إلى مجرد ترس في ماكينتها، يتحرك باتجاه إجباري، لكأنه مع توالي الموت، تصير الحرب هويته، التي يستحيل أن يتحسس أناه دونها. إنها حقيقة هاويته التي أطال المكوث فيها، فأصبحت داخله، أو أنه أصبح وعاءها.
انفجارات الحرب هي مبتدأ الرحلة في أعماقها: قرى مهجورة ومدمرة تماماً، وألغام في أماكن كثيرة، وجثث وحرائق تمتد بامتداد الحرب.
في البدء تكون الإصابة بشظية تترك أثرها في الجسد وساماً للتباهي، ثم تصبح مع مرور الوقت ومجانية الموت أثراً ووشماً لحرب التهمت سويتنا، وجعلتنا أقناناً وعبيداً في إقطاعية الموت الواسعة، والجسد والروح فائضاً في ملكية أمراء الحروب.
بميكروفون وخطاب حماسي “يحكي عن الجرائم التي تُرتكب ضد المدنيين الأبرياء…وأنه واجب الأقوياء مساعدة الضعفاء…”،والثأر –تصبح الحرب قضية وأغاني حماسية،” والشاحنات تدور على القرى، وهناك من يأتي سيراً على قدميه، الثوار يطلبون مقاتلين، والجيش يطلب مقاتلين أيضاً” (ص76).لهذا تستمر الحرب” عشر سنوات لم تكن كافية لإشباع نهم المحاربين” (ص76).
من صوت المعلم يأتي الموقف من الحرب، فـ”المعلم لم يحدد موقفه من هذه الحرب، هو يرى أن الفريقين المتحاربين تجمعهما فكرة العدالة والمساواة، كذلك القتال من أجل القومية، لكن كليهما يريد اتباع طريق مختلف، أو يريد أن يكون هو من يقود، وبما يزيد الأمر اشتعالاً أن هناك دولاً أخرى تدعم هذا الصراع وتطيل أمده” (ص78).
فكرة الحرب مماثلة لفكرة الاغتراب عن الوطن، كلتاهما عبور من ضفة الروح/القرية/الاطمئنان/الهوية، إلى ضفة اللاانتماء/القلق/خارج الهويات/خارج الحدود، سواها الحرب هوية واليقين الوحيد.
يفكر “المعلم” بالعودة إلى قريته، لكنه خائف على أسرته من ألاَّ يتقبلهم المجتمع هناك بشكل جيد. “فهو قد سمع قصصاً سيئة عن بعض الذين عادوا مع عائلاتهم. فالمجتمع يتقبل أبناءهم المهجنين على مضض…” (ص78).
إذن، هو ما وراء البحر/الحرب لا تترك مجالاً للعودة.
من عبر البحر أو جرفته الحرب، فإنه لا يعود كما كان، يصير هجيناً يبحث عن مجتمع يتقبله. هي الحرب والهجرة واللاانتماء، هاوية الهوية، ومدفن الذات، وقلق البحث عن اللاشيء!
لا معرفة شخصية لي بالراوي الخارجي/المؤلف، وعدم المعرفة حجاب من حجب النص، لكنني هنا أجري تواصلاً مع نص سردي يعبر البحر والهويات/القرية/قلق المدينة والهجرة/البقاء على حافة هويتين، هجين يرغب في العودة، لكن العبور من البحر إلى البحر ليس له سوى اتجاه واحد، فمع البحر والحرب تكون اللاعودة، ويكون اللامؤتلف…
لا يبقى لمن جرفه البحر/الحرب بعيداً عن قريته وطبيعته، سوى “شجن هائل يحملونه تجاه قراهم، بعضهم قال إنه قرر العودة عندما سمع ببحثي عن “المقشنن”.
قالوا إن هذا أشعرهم بأن هناك من ينتظر عودتهم، والبعض قال إنه سينتظر اتضاح ما ستؤول إليه الأمور هنا وهناك…” (ص82).
وكما تجري الهجرة في عروق الكثيرين، كذلك هي الحرب، لعنة الهجرة والحرب” مكتوبة على الأبناء قبل الأجداد، وأول شيء يفكر فيه أطفالنا بعد تعلمهم المشي المكان الذي سيهاجرون إليه…”.
الهجرة/الحرب، طوق النجاة الوحيد المتوفر، حين يتم سد جميع ممكنات الحياة، أي أن الهجرة/الحرب طريق إجباري نحو ضياع المعنى/الانتماء” البعض مشتتون بين هذه الأرض، والأرض التي هاجروا منها.. لا يستطيعون حسم إلى أي أرض ينتمون”ص84.
نداء الهجرة لا يختلف كثيرا عن نداء الحرب” كلما مر الزمن ازداد تغلغلهم في الأرض هنا، وكذلك تزداد رغبتهم بالعودة هناك” (ص85).
الحرب تهز القناعات والانتماءات، وتفقد المرء الأمان، وكذلك هي الهجرة. نداء الحرب ينطلق من الوعد بحياة أفضل، ونداء الهجرة هو أيضا نداء لحياة في مكان أفضل!
ومع الحرب يكون الحنين للعودة إلى السلم، ومع الهجرة يكون نداء العودة “فالنداء يدوي مجددا في أعماقهم.. لكنه هذه المرة نداء للموت” (ص87).
الحرب هي اليقين الوحيد، وكذلك هي الهجرة “هي متن الحياة الحقيقي…نحن جذوات من نار، تدفعنا الريح في كل اتجاه..وإذا بقينا في أماكننا سننطفئ” (ص87).وكأن نداء العودة هو تلويح بانتهاء الرحلة”.. كأن النداء من تلك الأرض كان ليخبرهم أنه قد حان الوقت ليتمددوا داخلها.. لتنتهي رحلتهم في هذه الحياة” (ص88).
تبحث الحرب عن فضاء تتملكه، ويبحث المهاجر عن فضاء أوسع من قريته.