ابراهيم الحجري*
تشبه المحكيات القصصية، في مجموعة «مأوى الغياب» للكاتبة المصرية منصورة عز الدين، أسفارا ورحلات في عوالم مجهولة، وجغرافيات منسية، قد لا تكون موجودة أصلا إلا في خيال الراوي، لكن القارئ بمجرد ما يتماهى مع هذه الرحلة، أو تلك، حتى يجد نفسه يركب متاهة غامضة تشبه السكر حد الثمالة، إذ تقوده عربة الحكي المجنونة من دوامة إلى دوامة، ومن مجهول إلى مجهول، ومن غيهب إلى غيهب، بدون أن تكون لديه الشجاعة الكافية على التوقف، والعودة، والنجاة بنفسه، من عاصفة حمقى، أو هستيريا جنون محقق، أو موت وشيك.
يقول السارد على لسان الشخصية: «لا ينتمي إلى مأواي هذا، إلا أصحاب العقول المراوغة عاشقو الغموض والالتباس، من يحدسون بخطو الأشباح في صمت الليل، ويقدرون الأوهام ويحتقرون الحقائق، من يؤمنون بالخيال، ويقدسون الأوهام والضلالات».
تفتح الكتابة السردية هنا، ممرا بين جغرافيتين مفارقتين: جغرافيا الشك، وجغرافيا اليقين، وتسير بمسافريها على حافة اللامعقول، واللاثبات، واللاموجود، واللامنطقي، مصورة أخيلة الظل، وبقايا الخراب، وصور الأطياف، وهياكل الهوام، وذبذبات الهواجس والأفكار المنسية، وطنين ذاكرة متهدمة، وخيالات تاريخ مطمور حدث أو لم يحدث، والأمكنة المتلاشية، والمحطات العابرة، وكأنها تستتبع ما انفلت من الشياطين المسترقة السمع، الهاربة من رجوم السماء، بعد تجسسها على العالم العلوي، أو كأنها تتحسس شكل الخطاطات الكونية التي كانت، أو التي ستكون، أو التي لن تكون أبدا، وتتخيل الصور الأولية لصراع الإنسان مع ذاته، ومخاوفه، وهواجسه، وغموض العالم من حوله، متهجيّة أصداء التشكل الأول، والخرابات المتتالية التي اجتاحت المدن، والعمارة، والحضارات، وتاريخ الأفكار، والنظريات، والجغرافيات، والطبيعة، وكل شيء من حولنا، بل حتى ذاك المدعو باللاشيء، يقول السارد: «استدرت خلفي، فلم أجد مدينتي. تلاشى الطريق الذي اتخذته وصولا إلى هذه البقعة. تقلص عالمي إلى حيز أشغله، وصخرة أقف عليها، وهوة تنتظرني، وما عدا هذا محض فراغ. بدا الأمر كما لو أن العالم محبوس بعيدا عن ناظري، تخبئه عني أسوار خفية، ما أراه حولي، وما أتحرك فيه ليس العالم كما ألفته، وحدست به، بل نسخة داكنة منه مغمورة بالظلال والفرقعات الغريبة».
تنطلق الرحلة السردية القصصية من الذات، من الفجوة التي يعرفها الرواة جيدا، أو تلك التي يتحاشاها الرواة عادة، وتدخل من أصعب الممرات والمسارب بدون خوف أو قلق، مستندة إلى منطق المجابهة، والمواجهة، والثبات في الجبهات القصية، وغيرها من الصفات التي يتميز بها الشخوص المسافرون، غير أن الرحلة لا تحدد وجهتها منذ البداية، على غير عادة الرحالين، بل يكون هدفها الأسماء هو الانطلاق، مطلقة الحبل على الغارب، وتاركة الأمر للحالات والتحولات الفجائية التي تحملها الطريق/ المتاهة، وكأنها رحلة تعرف منطلقها ولا تعرف مقصدها، وهكذا يكون رهان الكتابة، وشعريتها المتفردين لصيقين بقدرة الرواة على اختلاق فسحات فجائية ضمن مسارات مغلقة، وابتكار حلول للتوسع، والمواصلة في نهايات وشيكة، وممرات معتمة، وأفق غامض جدا، إذ على قدر سير رحل الكتابة، يسير رحْل القصة، ورحْل السفر، ورحْل الآفاق، ونكون بالتالي، إزاء قصة تتمدد آفاقها المنسدة أصلا، كلما واصلنا المسير، وتعمقنا في تشعبات السفر مع الكتابة والحياة.
نزوع فلسفي تأملي يستبطن العمق البشري:
يتسم مشروع الكتابة السردية لدى منصورة عز الدين، بالممارسة الواعية التي تجعل فعل السرد، مصحوبا بالتفكير التأملي، وطرح الأسئلة الملحة، والاستبطان النفسي في الذات وفي ملامح الآخرين، ومساءلة القضايا الشائكة. والأدهى من هذا كله، الغور في البواطن المعتمة، والسرحان في المتاهات الرهيبة التي تظل على هامش التفكير، والتناول، يقول السارد على لسان الشخصية الرئيسة: «أنا شقيقة الفراغ، جنية الخلاء والعراء، رائية الوحيدين والتائهين والضائعين على دروب لم يختاروها في المقام الأول. أدرك أكثر من غيري، أن الطريق ليس الطريق، والنهر ليس النهر، والشجرة ليست الشجرة. كل في حالة صيرورة مستمرة. الزمان يتجلى في المكان، والمكان يبتكر الزمان. وأنا في العراء، أرسم- بمساعدة صهد الظهيرة- لوحات سرعان ما تكتشف العين زيفها، ويلاشيها القرب».
تتسلح الكتابة السردية بالمعرفة الأبستمولوجية، وجينالوجيا الحياة البشرية، وحفريات التاريخ المنسي، ومتون الأساطير المؤسسة للثقافة الإنسانية، وأسرار المعتقدات الوضعية والسماوية، وتيارات الفلسفة الحديثة والقديمة، واتجاهات الفنون والآداب، كي تؤسس وجهتها المختلفة، التي تقوم على أساس المغايرة، والتجريب، والارتهان إلى الموضوعات اللامطروقة، المرتكزة على الخيال، والاستبطان الصوفي، والنزوع إلى مساءلة الدواخل والأعماق، بما فيها من ظل، وظلام، وسرمد، ورهاب، وافتتان، وغموض لذيذ، وفجائع مستترة على مدى تاريخ لا يعرفه أحد، ممتد، وسحيق… استنادا إلى أدوات مرجعية فلسفية يتيحها التفكير الفلسفي التأملي الاستبطاني، المرافق لفعل الكتابة، والمحايث لمراحل تشكلها الجنيني.
تصنع المتتاليات القصصية مادتها السردية من مطاردة خيالات الرواة والشخوص، بل حتى القارئ، ومداهمة الجوانب الحساسة في ظلالهم السكونة بالخوف، والرهبة، والاشمئزاز، محوّلة هذه التهيؤات، وأحلام اليقظة، والأفكار المشوشة، والتصورات المتخلى عنها في النفس، والعوالم الساكنة في اللاشعور، لتعيد الاعتبار لأعماق النفس، وتجعل منها عبر فعلي الكتابة والقراءة، أفقا للتفكير في ما يخجل، ويخيف، ويشوش، ويفتن، ويرهب، ويحير، الفرد، والمجتمع معا، ويثير الفوضى في المشاعر، والأحاسيس، ويربك التوازن الذهني لديهما، وكأن الكتابة بذلك، تسعى، في ما تسعى إليه هنا، إلى تنبيه غفلة الكائن البشري، ولفت اهتمامه إلى المستحكمات الحقيقية في مساراته الحياتية المتشعبة، وصرفه، عبر أسلوبيْ التشخيص والموْضعة، باستدراج ذكي للمتلقي للتفاعل مع هاته العوالم التي تشكل، في الحقيقة، جزءا مغيبا منه.
يتسم مشروع الكتابة السردية لدى منصورة عز الدين، بالممارسة الواعية التي تجعل فعل السرد، مصحوبا بالتفكير التأملي، وطرح الأسئلة الملحة، والاستبطان النفسي في الذات وفي ملامح الآخرين، ومساءلة القضايا الشائكة.
ولتتحقق شعرية التشييد الموضوعي للمتن القصصي، تستند الكتابة السردية إلى المرونة المطلقة على مستويي التحول، والانتقال، سالكة السلاسة المفرطة في تحدي منطق العالم والأشياء، وكسر القوانين، والحدود المنتظمة للعلاقات بين العناصر الكونية واللغوية، إلغاء المسافات بين العوالم، والكائنات، والأفكار، فكان السرد يتطور حرا طليقا، مثل نسر جامح، كأن تصير ذات الراوي طائرا، أو مكانا جغرافيا، أو فكرة شوهاء، أو خرافة قديمة، أو حدثا غير معروف، أو حتى لا شيء، يقول الراوي في قصة «ابنة السراب»: «أعيش في الفراغ اللانهائي. تنعشني الامتدادات الخالية من البشر، ومن يشبههم. حين يظهرون أتسلى بالتلاعب بأبصارهم، وبالتحول من حال إلى حال: أكون صخرة طائرة في الهواء، شلالا يندلق من السماء للبحر، جبل جليد يخفي خط الأفق عن بحارة يقتلهم الحنين إلى اليابسة. في أوقات فراغي، أصير ما يحلو لي: شجرة، عصفورة، نمرة جبلية، بقعة ماء على طريق مهجور، أو واحة في صحراء هي الكون». وينعكس هذا التوجه الفني الذي تنهجه الكتابة السردية في «مأوى الغياب» بالضرورة، وبشكل تلقائي، على بنية الشكل القصصي، إذ تعمد الكاتبة إلى كسر الأشكال التقليدية المكرسة، وتحرص، بوعي، ومع سبق الإصرار والترصد، على خلخلة النسق التقليدي المؤسس لسردية القصة، سواء على مستوى تمثيل الشخصية، أو تجسيد الفضاء السردي، أو اختيار جهات التبئير، أو تدبير الخط الزمني، أو تشييد القضاء والأحداث السردية، أو خريطة تشكيل العالم وفق التوازنات المدركة بين عناصر السرد. وكل ذلك يدخل في نطاق الدفاع عن مشروع رؤية للعالم، وبناء أطروحة فكرية تتهكم مما صار إليه العالم من خراب قيمي، ودمار على مستوى الجماليات والإنسانيات، الشيء الذي يجعل من الكتابة والقراءة معا، فعلين ملهمين، مسليين، يشكلان أفقا للهرب من جحيم الانهيارات المرئية واللامرئية، والفظاعات المتواصلة في زمن أخرس، تقول الساردة – الشخصية: «أستعيد هذه الصورة الحية، فأسأل نفسي: أين توارتا الحياة؟ أين غابت عني؟ ولماذا تركتني في هذا الخواء الممتد؟». تصبح الكتابة بالنسبة للعالم الموصوف في القصص، نوعا من التطهير (Catharsis)، والغسل، اللذين يطرآن على الذات والعالم، من خلال تمثيل عوالم أخرى بعيدة عن العالم السائد، المليء بالشر، والبغي، والفظاعات، خاصة لما ترتبط في النصوص، بمقاومة الموت، والتفكير في النهايات المحتملة، المقبلة بلا أدنى ريب، والرغبة في ترك بصمة ما، وأثرا ما يدل على مرور الفرد من هنا، ما دام التاريخ نسّاء، والمكان قابلا للانهيار، والزمان سريع التبدل، نزوعا نحو البحث المضني عما يشبه حجر الفلاسفة، أو إكسير الحياة، إذ إن تجعل الكتابة عبثية الحياة محتملة، بواسطتها فقط، نستطيع تلطيف الطابع التدميري للموت، صحيح أن الإنسان مخلوق متناه، وعابر، غير أن عظمته تتمثل في تقبله لوضعه الإنساني المحدود في الزمان والمكان. ويبدو الموت، لأول وهلة، غير عادل، لأنه يأتي، في الغالب، بعد نضج الأفراد ذهنيا وجسديا، لكنه، في العمق، فعل ديمقراطي يساوي بين جميع الناس، لا يقهره سوى الكاتب الذي يعطي حياته بفعل الكتابة تحديدا عمرا إضافيا.
فإذا كان الموت يجمع بين اليقين والشك، حيث نعرف يقينا إننا سنموت، فإننا لا نعرف متى ولا كيف؟ بل لا نصدق في العمق أننا سنموت!». وتشي المتتالية القصصية بالرهاب من فكرة الفناء التي تقبر الكثير من الأحلام، وتجهض العديد من المطامح، والأماني، وتضع حدا لعدد لا متناه من المشاريع، والأعمال، وتؤجل مسارات كانت في بداياتها، وإلى الأبد، رابطة إياها خصيصا، بفئة الكتاب، الذين يفاجئهم الموت، فيجهز على كثير من الأعمال، ويوقف، بغير رحمة، ما كانوا بصدد إنجازه، وكأنها ترثي حال الإنسان الذي يرحل إلى العالم الآخر، بدون أن يكمل مخططاته، ومهما استطال به العمر، سيظل قاصرا على أن ينجز كل ما كان يفكر فيه قيد حياته. نحن نعرف جيدا أن الموت يقين، لكننا نصرّ على تصديق كذبة الحياة. لذلك، فالكتابة والموت إذن، فعلان فرديان لا ينوب أحدنا فيهما عن الآخر، يقول الراوي على لسان المؤلف الضمني: «ما أكتبه يخيفني لأنه يثبت كل ما رأيت من أهوال. يحييه، ويكرره بلا نهاية، فلا يمّحي من ذاكرتي. قد يكون ما يروعني أني حين أكتب ما شهدت عليه أستشعر جمالا خفيا كامنا فيه. تخونني اللغة، تسحبني إلى جمالياتها. أقرأ فأجد الخرائب جذابة، والموت اليومي مصاغا بدقة بارعة تنقيه، وتعزل الوجع بعيدا، تطرده من المشهد، ولو مؤقتا». تخوض الكاتبة منصورة عز الدين تجربة كتابة مختلفة، لا يزاحمها، في هذا السبيل المختار بوعي ومعرفة، كثيرون. يساعدها في هذا الاختيار الوعر، قدراتها الفذة على تطويع اللغة، ومهاراتها الفطرية والمكتسبة في ترويض المساحات والأفضية والمجالات، من خلال إعادة عجن كتلتها، وتمثيل جغرافياتها الممتدة في أشكال، وخطاطات، ومفردات، ومفاهيم، وهيروغليفيات، وطلاسم، وتصورات مجردة، وإحداثيات غير مدركة، وتصاميم خيالية، وتدعمها أيضا، شساعة خيالها الخصب، وصبرها على عوامل القسوة التي يقودها إليها هذا المسار، وجرأتها على اقتحام مجاهيل النفس، ومحاورتها، والسفر بها، وعبرها إلى عوالم غامضة تسكن البواطن السحيقة للنفس، فضلا عن تشبعها بالفلسفات الحديثة، والتيارات السيكولوجية المعاصرة التي تشرح لاوعي الفرد، للوصول إلى كنه هواجسه، وتفك مستغلقات ذاته الموحشة التي يعرفها، أو لا يعرفها. وهي، بناء على ذلك كله، تقدم للقارئ طبقا سرديا مغايرا، يحفل بالجدة، والراهنية، وصوتا إنسانيا مبدعا له فرادته، وخصوصيته اللتين تستعصيان على الابتذال والاجترار والتقليدانية.
- ناقد وروائي مغربي