محمد عبد الوهاب الشيباني
حين اختلف الشيخ القبلي البارز والمحافظ القوي مع أنشط الكوادر، وأكثرها وعيًا وتأثيرًا داخل الحزب، الذي ينتميان إليه، لم يجد غير وصفه بأنه «بعثي»، ولد مقهى في حين وصف الشيخ نفسه بأنه «بعثي» ابن ناس.
وقال لي أحد الأصدقاء: إن والده القاضي والحاكم الشرعي، الذي كان يوصف بالمستنير في الصف الجمهوري جن جنونه حين رأى ولده جالسًا في مقهى، وعَدَّ ذلك تجاوزًا أخلاقيًّا مريعًا، يوجب عليه العقاب والحبس والتقييد في المنزل لأسابيع قبل تدخل عائلي قوي لإطلاقه.
يذكر أحد طلاب بعثة الأربعين الشهيرة، التي أرسلها الإمام يحيي إلى لبنان للدراسة في أربعينيات القرن الماضي ـ في فعل أحدث انقسامًا في بيت الحكم ـ إن أغلب طلاب البعثة رفضوا تناول الطعام في مطعم، سمّوه مقهاية، خارج سكنهم لعدِّهم ذلك عيبًا. وكانت الخانات والنُّزل الشعبية المنتشرة في طرق المسافرين، بين المدن والقرى المعزولة بين الجبال، توسم بأرذل الأوصاف، بوصفها مقاهي يشرف على إدارتها رجال ونساء ينتمون إلى الطبقة المنبوذة، وصار الوعي الشعبي يختلق قصصه بمخيالات كبتية عجيبة عما يدور فيها، ووجدت تاليًا طريقها بالاستلهام إلى قصاصين رواد أعادوا ترسيم شخصيات المقهويات من المواقع الكبتية ذاتها وإن تخففت من الازدراء.
كان يقول لي والدي، الذي عمل لسنوات طويلة في «مخبازة » بالقرب من المباني القديمة لجامعة صنعاء في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي: إن الكثيرين من سكان المدينة المحافظين كانوا يطلقون على الجامعة اسم (سمسرة وردة)، كنوع من الازدراء للتعليم المختلط، بتشبيه هذه المؤسسة الحديثة بأشهر خانات ومقاهي صنعاء المنبوذة في هذا الوعي.
وبمناسبة ذكر (سمسرة وردة) التي لا تزال قائمة في أطراف سوق الجنابي في قلب مدينة صنعاء القديمة أذكر أنها كانت تزيِّن مدخلها بلافتة باسم مقهى (أبو هاشم)، لكن منذ استولى الحوثيون على السلطة اختفت تلك اللافتة وأعاد ملاكها تجديد لافتتها القديمة باسمها التاريخي نفسه (سمسرة وردة)، فأبو هاشم لا يمكن أن يكون مقهويًّا بأي حال من الأحوال!
حين التف آلاف الشبان القادمون من عدن وتعز وأب والحديدة حول ثورة سبتمبر 1962م، وصاروا محركًا لقاطرة التحول فيها، لم يجد مناهضوها سوى نعتها بثورة أبناء المقاهي، وحين أطلت برأسها القوى نفسها مع حالة الحرب القائمة، بدأت بتسويق مصطلح تصحيح مسار المجتمع وإعادته لجادَّة الحق، بتخليص السلطة التاريخية من تغول أبناء الشوارع والأسواق.
على مدى أجيال وحقب تاريخية طويلة ظل الوعي العنصري والشعبوي ينظر إلى المهن التي يمارسها أبناء المجتمع أساسًا للتموضع الاجتماعي وتراتبيات الطبقات في المجتمع.
فصار يُنظر للسيد داخل شجرة النسب الجافة في أعلى السلم الصاعد إلى السماء، متبوعًا بالبيوتات التي تمتهن القضاء والفقه ثم مشايخ القبائل، الذين يسبقون التجار بدرجة واحدة، ومن تموضع الأخيرين هذا سيبدأ الانحدار إلى الأسفل بالفلاحين وبعدهم الحدادين ثم المزاينة (حلاقون وقارعو طبول ودواشن) ويتبعهم نزولًا الجزارون وفي الأسفل تمامًا أصحاب مهنة زراعة الخضر الورقية في البساتين التي تستقي من مخرجات الجوامع في المدينة المكتظة كصنعاء ويسمون بالقشامين.
هذا النبذ والاحتقار للمهن أنتجه في الأصل الوعي البدوي القبلي الاستعلائي العنصري الفارغ، الذي يقسِّم المجتمع إلى سادة وعبيد، ووجود القسم الثاني وبكثرته تبعًا لهذا الوعي ليس إلا خدمة لقلة القسم الأول، الذي لا يأكل من كَدِّهِ وشقائه، ويأكل من كَدِّ مَنْ ينبذه ويحتقره. ومع الزمن ترسخت هذه النظرة وتصلبت في وعي المجتمع بشرائحه وطبقاته المضطهدة في الأصل.
وحتى تتبدل نظرة المجتمع المغلق والجاهل حيال المقاهي والمطاعم كان لا بد من إحداث اختراق صريح في جدار الوعي الصلب بواسطة إعادة تمثيل المدنية في الوعي الجديد، بوصفها حالة للتعايش خارج ضغوط أوهام الصفاء القبلي والبدوي والعنصري، ولم تكن حينها غير مدينة عدن الحديثة، مؤهلة لقطر الوعي المديني، وبالفعل استطاعت، تسييل وتفكيك ما تصلب وتخلف في وعي القادمين إليها من الجبال العارية والأرياف الفقيرة والقرى الكبيرة المسورة والمعزولة وكانت تسمى تجاوزًا بالمدن.
( يتبع)