كثيرة هي التجارب المريرة التي مر بها العرب في الثلاثين عاماً الأخيرة، ومنذ بداية القرن الواحد والعشرين خاصة. وكانت هذه التجارب كفيلة – لو كانت الذاكرة العربية غير مثقوبة- أن تمنع الكثير والكثير مما حدث ويحدث. ومن أوضح تلك التجارب وأكثرها حضوراً العلاقة غير السوية بين العرب وجيرانه في الإقليم والدول الحليفة والمعادية، ولعل أسوء ما تصاب به الشعوب المصابة بالذاكرة المفقودة استسلامها للتناقضات في مواقفها، وهذا ما يعانيه شعبنا العربي في هذه اللحظة الفارقة من تاريخه.
أن علاقتنا غير السوية بجيراننا وبغيرهم قد شجع البعض من هؤلاء وهؤلاء على الانتقاص من قدراتنا، وأوجد ما يشبه الطمع في إمكانية إضعاف السيادة العربية والاستيلاء على بعض أراضيها، وهو شأن خطير ما كان له أن يحدث لولا حالة إهمال الإفادة من التجارب والوعي المسبق بما غيبه الأخرون لشعب فقد ذاكرته ولم يعد يستفيد من مخزون تجاربه الكثيرة. وفي مثل هذه الحالة لا يجدي الشعوب أن تعتمد على المنظمات الدولية أو الرأي العام الدولي وغيرها من الأسماء التي لا وجود لها في واقع الحياة والناس وما هي إلاَّ أشكال خادعة مظللة في أغلب الأحيان.
هل ما يزال في الإمكان ترقيع الذاكرة العربية المثقوبة والاستعانة بما كانت قد اختزنته هذه الذاكرة قبل أن تصاب وتفقد أهميتها؟ من وجهة نظري أن ترقيع هذه الذاكرة ممكن وأن اصلاحها ممكن أيضاً فكثيرة هي الشعوب التي عادت إلى الواقع وتجاوزت محنتها بعد غياب طويل ، ولا أريد أن أضرب أمثلةً على ذلك فأكثر شعوب الأرض التي تسابق الزمن وتسعى إلى احتلال مواقع جديدة وهامة في حياة الناس هي تلك التي نجحت في تجاوز مراحل التعثر والانكسار. ولشعبنا العربي في تلك الشعوب قدوة حسنة لو أراد أهله أن يتغيروا وأن يتخلصوا من واقعهم الذي أصبح مضرب الأمثال في العجز والتفكك والانقسام.
ولا أظن أن أقطارنا العربية والخاضعة للحروب والمنازعات تفتقد إلى قوى واعية ومدركة لهذه المعاني، بل ما يزال بإمكانها أن تعلن عن موقفها واستنكارها لما يحدث بين الأشقاء وأبناء المكان الواحد والتراب الواحد من اقتتال ودماء خارج مما تفرضه الظروف الطبيعية لمواجهة العدوان الخارجي والتدخلات الاستفزازية التي باتت عملاً يومياً نشهد أثاره هنا وهناك. لقد كانوا في عشرينات القرن الماضي يتحدثون عن الإمبراطورية العثمانية ويصفونها بالرجل المريض وهم الآن يتحدثون عن الوطن العربي بوصفه الرجل المريض المهيأ للانحلال والتقاسم لكنهم سوف يكتشفون أن هذا الوطن الكبير بأبنائه وتاريخه غير قابل لمثل هذا المصير، وأن قواه الخلاقة قادرة على مقاومة الضعف الظاهر والخروج من نفق التفكك، وإن غداً لناظرة قريب، كما قال المتفائلون من أبناء هذا الوطن الذي يعاني من حالة انكسار مؤقت وضعف عابر.
أ.د.عبدالعزيز المقالح: العرب والذاكرة المثقوبة
التصنيفات: أقــلام
الوسوم: الوحدة نيوز