لم يحترمْ جاريد كوشنير تمام شهر رمضان المبارك للإعلان عن صفقة القرن، عندما سرّبَ البند الأبرز في الصفقة، أي خُلوِّها من حل الدولتين، على هامش زيارته الأخيرة للمملكة المغربية. كنا نعرفُ من قبل بنداً أساسياً آخر في الصفقة، إعتراف واشنطن بالقدس عاصمة أبدية لإسرائيل. وكنا نَعرفُ أيضا تَوجّه الإدارة الأمريكية لتصفية القضية الفلسطينية عبر التخلص من بنيتها التحتية، أي قطع موازنة منظمة غوث اللاجئين “الأونروا” ومنح المساعدات الأممية المخصصة للفلسطينيين إلى الدول التي تستضيفهم. بذلك تصبح قضيتهم قضية لاجئين خاصة بكل دولة على حدة وليست قضية لاجئين ينتظرون العودة إلى منازلهم التي أُجْبِروا على مغادرتها في فلسطين.
في السياق نفسه، كنا نعرفُ أيضا وأيضا أن القانون الدولي الذي تستند إليه السلطة الفلسطينية في حركتها السياسية للوصول إلى حل الدولتين، مُعَلّقٌ إلى حد كبير على إرادة الولايات المتحدة الأمريكية. لقد منح ترامب القدس لإسرائيل دون أن يؤدي ذلك إلى انتفاضة عالمية دفاعا عن القانون الدولي، ووقع عقد تمليك الجولان للدولة العبرية دون أن يرمش له جَفنٌ، مؤكدا مرة أخرى أن القانون الدولي يكون حيث تريد واشنطن أن يكون وحيث تكون مصالحها ومصالح أنصارها، وأن موازينه لا تستمد من العدالة وانما من حسابات القوى على الأرض. والحق أن حال القانون الدولي كان دائما على هذا النحو بالنسبة للأطراف الأساسية في العلاقات الدولية، ولم يكن على غير هذه الصورة إلا عند الذين ضاقت بهم السبل لتشكيل قوة مستقلة في هذا العالم، فاستعاضوا عنها بالتكيف من موقع التابع مع موازين القوى الدولية ودرجوا على”النضال” من أجل حقوقهم بوسائل قانونية، لا يحترمها من وضعها.
ما تبقى من مسار صفقة القرن هو كيفية حل قضية اللاجئين الفلسطينيين داخل وخارج فلسطين التاريخية. لا نعرف بعد كل تفاصيل الحل وان كانت بعض المؤشرات كافية لرسم ملامحه وهي تنحصر على الارجح بدمج الفلسطينيين في فلسطين التاريخية بما يتناسب مع السقف السياسي للصفقة ، أي لا سيادة فلسطينية سياسية في الضفة الغربية، بل ادارة ذاتية اقتصادية واجتماعية تحت السقف السياسي الاسرائيلي. لا هوامش للمناورة لفلسطيني العام 1948 الذين يجب أن يندمجوا في الجيش الإسرائيلي والمؤسسة الأمنية وأن يدافعوا عن الدولة الإسرائيلية.
أما حل قضية اللاجئين الفلسطينين خارج اسرائيل فيمكن أن يكون مفتوحا على مخارج عديدة منها منحهم الأولوية في الهجرات المتاحة الى الدول الغربية والإندماج فيها لقاء التخلي عن صفة اللاجيء.
ومن غير المستبعد ان تملي صفقة القرن شروطا تربوية على الدول العربية المنخرطة في الصفقة وبالتالي الترويج لسردية مختلفة عن تلك التي أحاطتْ بظهور القضية الفلسطينية بوصفها قضية شعب إغتُصِبتْ ارضه ويمتلك الحق التاريخي والدولي من أجل استعادتها فتصبح قضية صراع يهودي عربي اشترك الطرفان فيه بأعمال قتل وتهديد واقتلاع. وهذا ما باشرت به فضائية عربية عندما بثت وثائقيا يزعم أن الفلسطينيين ارتكبوا مجازر بحق اليهود ومن غير المستبعد ان تروج الفضائية نفسها لفكرة “الترحيل السكاني المتبادل” أي أن الاسرائيليين اقتلعوا الفلسطينيين من اراضيهم وان العرب اقتلعوا اليهود من بلدانهم وبالتالي لا يوجد قضية اقتلاع واحدة محصورة بالفلسطينين.
ويرجح ان تنتشر هذه السردية على خط مواز للتطبيع الخليجي الصهيوني وبذلك تنتقل قضية اللاجئين الفلسطينين من قضية عادلة توثقت عدالتها في أوراق الأمم المتحدة الى قضية نزاع بين اليهود والعرب تضرر منها الطرفان.
قد يبدو هذا السيناريو خياليا، منظور اليه من خلال المعطيات الراهنة، الا انه لن يتأخر في الدخول إلى حيز التطبيق عندما تعرض كل عناصر الصفقة وقد يصبح محل نقاش وجدل لضرب ثوابت القضية الفلسطينية في معرض تحويلها من قضية تحظى بإجماع عربي ودولي إلى قضية تحتمل الطعن والجدل.
إن كل المؤشرات المتوفرة حتى الان عن مسار صفقة القرن تصب في اتجاه واحد هو نقل القضية الفلسطينية من قضية حق عربي ودولي غير قابل للطعن إلى قضية خلاف بين العرب الذي يريدون طي صفحتها والاعتراف بوجود اسرائيل والتعاطي معها كدولة قابلة للاندماج في محيطها بل مرشحة لقيادة جزء مهم من هذا المحيط والعرب الذي لا يريدون التنازل قيد انملة عن هذا الحق ويراهنون دائما على انتزاعه بوسائل مختلفة.
ما من شك في أن تزامن التصعيد الأمريكي ضد الجمهورية الإسلامية الإيرانية مع عرض صفقة القرن ليس عفويا. فقد بدأ هذا التزامن مع الخروج الأمريكي من الإتفاق النووي الإيراني وفرض العقوبات الاقتصادية على ايران ومحاصرة سوريا وحزب الله واشعال حرب اليمن وتجميد الحل السياسي في سوريا ناهيك عن اطلاق الموجة الثانية من ربيع الزفت العربي. ولعل اختيار البحرين للبحث في الحل الاقتصادي للقضية الفلسطينية واطلاق صفقة القرن رسميا، يراد منه الإشارة إلى أن الصفقة محمية من الاسطول الخامس في البحرين وستكون تطبيقاتها محمية من الأسطول السادس وباقي الترسانة العسكرية الأمريكية اذا ما استدعت الضرورة.
الواضح أن صهر الرئيس الأمريكي لا يتمتع بعقل سياسي أفضل من عمه. فقد تمكن بعرض واحد من إحراج حلفاء واشنطن وعزلهم في محيطهم والتقريب بين الأردن وحماس وبين السلطة الفلسطينية وقطاع غزة وبين سوريا وحماس وأشاع قلقاً حول مصير النظام الأردني. بكلام آخر إن بعض الدول والاطراف المرشحة لتطبيق صفقة القرن لا تريد أصلا نقاش هذه الصفقة ولا تكفي الدوافع الاقتصادية لحملها على الخضوع لإملاءات صهيونية لطالما بَنَتْ مصيرها السياسي على التصدي لها.
لا أدري إن كان الأمر يستحق إعلانا رسميا لصفقة يصعب تسويقها بواسطة الأساطيل الحربية. أن الطرف الاول المعني بها أي الشعب الفلسطيني لا يريدها ويعلن عن رغبته بمقاومتها بكل السبل والوسائل. عندما يجمع الفلسطينيون المرشحون بحسب الصفقة للاندماج في محيطهم، عندما يجمعون على رفضها، محذرين في الان معا الدول العربية التي تتبناها من سؤ العاقبة، فان هذا الاجماع من شأنه ليس فقط أن يطيح الصفقة بل قد ينقل القضية الفلسطينية بكل اطرافها الى المحور السوري ـــــ اللبناني ـــــ الايراني.
لا مبالغة في القول ان ما سيعلن عنه في المنامة ان التأمت القمة، هو صفقة معطوبة، من غير المستبعد ان تصبح عبئا ثقيلا على الضيف والمضيف معا. الامر الذي عبرت عنه صحيفة ” لوموند” الفرنسية في تعليق ساخر بالقول: لقد فشلت الصفقة وما ننتظره هو الاعلان عن المسؤول عن فشلها.
فيصل جلول: صفقة معطوبة
التصنيفات: أقــلام
الوسوم: الوحدة نيوز