قديما كان ملوك اليمن يتبعون أسماءهم بهذا اللقب الطويل: (ملك سبأ و ذي ريدان وحضرموت ويمنات وأطوادها وتهامتها)؛ لأن توحيد اليمن بمخاليفه وقبائله كان مهمة صعبة وأحيانا مستحيلة؛ ولذا فإن زينة تيجانهم كانت هذه الدرر: دليل قوة و عنوان فخر، يذيلون بها مساندهم المنقوشة على حجارة السدود وأعمدة القصور والمعابد وأوثان القبور.
آنذاك لم تكن كلمة شعب تحمل الدلالة السياسية المتداولة في عصرنا، وإنما كانت تحيل إلى تشاعيب شجرة أنسابنا اليمنية، فكل مجموعة من القبائل تؤلف شعباً ، وبهذه الدلالة جاء القرآن الكريم مبيناً (( وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا)).
هذا التشعّب جعل اليمن قارة في صورة بلد، لا حدود طبيعية بين أجزائه المختلفة المؤتلفة:
جبالٌ تناطح النجوم، سهولٌ يتعب فيها البصر، صحارى نروضها بالحداء والصبر، وشواطئ كذراعين مفتوحتين للعالم.
عندما تسافر في أرجائها، تشعر أنك انتقلت من جبال سويسرا إلى سهول المكسيك، من ضيعةٍ في ريف لبنان إلى قريةٍ في سواحل الكاريبي. أرضها تنبت ما يزرعه الأفارقة وشعوب المتوسط والأعراب. . تنوعها هو ثروتها وثراؤها.
لا يغني اليمنيون كلهم الأغنية ذاتها، ولا يرتدون الثوب نفسه؛ لأن بلادهم مهرجان ألوانٍ، وموسوعة أغانٍ.
لا يبني اليمنيون منازلهم بالطريقة ذاتها: بعضهم كالعصافير في عشش الخيزران والجريد والقش، وبعضهم ينحتون من الجبال قصوراً، ومنهم من لم يغادر خيمة(امرئ القيس)، وعندما زوجوا الماء والتراب والنار، كانت صنعاء، وكانت شبام حضرموت، وصعدة، وزبيد، في كلٍّ منها بساطة اليمني وعبقرية فنه – أربع صور مختلفة لوطن واحد، سافرَ في أزمنة الشتات حتى وجد نفسه. يومها غناه أيوب: (( رددي أيتها الدنيا نشيدي)).
هذا النشــيدُ:
هو صــوت أحلامٍ، وزفــرة عاشـــقٍ،
و صــلاة شعبٍ كان يعــرف مــايريدُ.
هو نغمـــة الشجــن التي كنا نراودها فيأبى الليلُ، والقدرُ العنيدُ.
وعندما تخلى القدر عن عناده، خرج اليمنيون إلى الساحات كمجاذيب (ابن علوان)، يرقصون و يغنون مع إبراهيم الحضراني وأيوب طارش (لقاء الحبايب) :
الحبايب . . سقى الباري ديار الحبايب
بين (سيئون) و(الحوطة)، و(صنعاء) و(ماربْ)
قد جُمعْ بالهنا والسعد شمل الحبايبْ
خِلّ بالخل يتهنى، وصاحب لصاحبْ
والأمور سابرة، والخير من كل جانب
العسل (دوعني) والبُرّ من (قاع جهران)
والتقى (الحارثي) و(المرشدي) و(القمندان)
عانقي يا جبال (ريمة) شماريخ (شمسانْ)
* * *
حُبي الأول الغالي، و لي حب ثاني
كاذية من روابي (عنس) أو (كوكبانِ)
سحر (بير العزب) فيها، ونفحة (خبانِ)
نور عيني، منى قلبي، وفرحة زماني
((كل شي ما خلا جبر المحبين فاني))
عانقي يا جبال (ريمة) شماريخ (شمسان)
لا أزال أتذكر صور الشيوخ الطاعنين في السن وهم يشبكون أياديهم بأيدي الشباب، يتقافزون كالأطفال وعيونهم مليئة بالدموع. أحدهم كان عاري الصدر، في تجاعيد وجهه ونمش جلده آثار تسعين سنة على الأقل من المكابدة والمجالدة. كانت ألوان “لُحفته” – بالمصادفة – تشبه ألوان راية اليمن الجديد، فانتبه لذلك وعلق اللحفة في رأس خيزرانته، وصار يرقص بحماس أكبر، غير آبهٍ بضعف قلبه و وهن ساقيه. لا يهمّه إن كانت رقصته تلك هي آخر ثمالات عمره وآخر صلوات روحه، ما دام قد وُهِبَ نعمة البقاء حتى ذلك اليوم، فيكون مشهد الفرح العارم آخر شيء يغمض عليه عينيه. هنيئا له؛ لقد دخل الدنيا باكيا وعاش فيها مهموما معذبا، وخرج منها سعيدا.
أتذكر ذلك العجوز وأستحي منه كلما سمعت كلمة تعصب و نغمة كراهية و دعوة انفصال. أستحي من الزبيري و جرادة والبردوني والمقالح والجاوي والفضول والربادي وفتّاح، و كل أدباء اليمن الذين جعلوا قصيدة الوحدة و أغنيتها تغسل قمم الجبال وتسيل في الوديان، وتروي عروق اليمنيين بالمحبة والأمل، كلما رأيت أننا نزداد تباعدا:
“في لساني يمن،
في ضميري يمن،
تحت جلدي تعيش اليمن
خلف جفني تنام وتصحو اليمن..
صرت لا أعرف الفرق ما بيننا،
أينا يا بلادي يكون اليمن؟!
يمنٌ واحدٌ
عشت أحمله- راحلاً ومقيماً على ساحة العين
ماذا يقولون؟!
صارت مجزأة القلب مكسورة الوجه؟
صار اسمها في المحافل “صنعاء” يوما
ويوما “عدن”؟
لا أصد قهم؛ فهي واحدة كلما أثخنت في التراب السكاكين، واندمل الجرح
واسترجع الجسد اليمني الممزق أبعاده
شكله واستدارته
نهضت من خرائبه المقفرات اليمن”.
وأتضاءل خجلا، كلما قرأت في صحيفة أو على أحد مواقع التواصل كلمات تقطر سما وحقدا ودما وسواداً، ممهورة بتوقيع أديب!! خاصة حين يتحدث عن هوية جنوبية أو عن أحلام جنونية!!
ما أسرع ما نسي هؤلاء أن أدباء اليمن حققوا وحدتهم قبل أن يحققها الساسة بقرابة ثلاثة عقود. ما أسرع ما صار هؤلاء دعاة فتنة وفرقة، وهم رسل المحبة والسلام!!
يا سادة الحرف وأمراء الكلمة: إن الحمام لا يجيد النباح، ليس له مخالب تدمي، ولا أنياب تنهش.