عدن مدينة تنام نهارا وتصحو ليلا في سالف الأيام فما بالك برمضان .
خرجت من مطارها مع شروق الشمس.. كنت أخطط البقاء فيها عدة أيام.. لكن للطقس الحار قررت الرحيل من ساعتي.. ذهبت إلى جولة السفينة حيث تنطلق الحافلات إلى بقية المدن لكن الساحة خليت من حافلات صنعاء .. أخبرونا بأن طريق عدن صنعاء مقطوع نتيجة قتال دائر في الطرقات الجبلية.
كان علي الرحيل
بحثت عن أي وسيلة .. كانت الساعة الثامنة ولا زالت المدينة نائمة والشوارع تجلدها الشمس.. أخيرا وجدت سائق عربة صغيرة يبحث عن ركاب إلى صنعاء.. نمت في المقعد الأخير بينا ظل ينتظر يبحث عن مسافرين.
مع الساعة الحادية عشر سمعت صوته يوقظني “أنت يا حاج.. أنت… هيا انهض هناك سيارة ستقلك” سألته “وأنت ” فأجبا دون أن ينظر إلي لا عليك مني ، انتقلت إلى عربة مماثلة وأنا في تعجب من موقفه..
دفعت ما علي دفعه للسائق الجديد.. ثم رأيتهم يتقاسمون ما دفعت وعرفت هنا أن الركاب ماهم إلا سلعة يباعون من سائق إلى آخر.. كنت ثالث ثلاثة.
انطلقنا في الحادية عشرة ظهرا من عدن باتجاه حوطة لحج.. تصاحبنا تلك المباني المشوهة بفعل قذائف الحرب.. فهذه المدينة تعيش دورات حروب منذ عقود.. نقاط التفتيش تتوالى.. أسراب الأثيوبيين يسيرون على حواف الطريق فرادا وجماعات …لا يحملون غير هلاهيلهم وقناني المياه البلاستيكية.. يسيرون تحت حرارة الشمس اللاهبة ولا ينتظرون من الآخرين ان يقلونهم .. وهكذا طوال الطريق الصحراوية والجبلية يسيرون بقاماتهم الناحلة ونادرا ما يلتفتون لأحد.
تعجبت كيف لهم ترك بلادهم التي تعيش في سلام ويأتون إلى بلاد تنخرها الحروب ويعشعش الخوف والجوع في أوردتها .. سأل لم أجد له جواب!
أعلام اليمن الجنوبية إلى جوار أعلام الإمارات البالية غرزت سنانيرها فوق براميل نقاط المسلحين.. أشعر عند عبوري بأن بلدي محتل .. نعبر سوق الحلوى القباطية.. ثم الحوطة ثم مفرق العند.. الحبيلين نرى المصلين يخرجون بأثوابهم البيضاء بعد إداء صلاة الجمعة.. فيرد السائق حين طالبه أحدنا التوقف للصلاة بأن المسافر في فسحة من دينه.. تصعد بنا العربة الصغيرة جبال ردفان.. ما من تعليق احدهم نائم وأنا أتابع الطريق.. نقترب من إحدى نقاط المسلحين على مشارف مدينة الضالع .. يخبرونا بأن من الخطر عبور قعطبة فالمدينة قد تجدد فيها القتال.
يقف السائق بعربته في ظلال أحد المساجد.. يشير علينا بضرورة الصلاة.. معلقا “سنعبر المدينة وأن قتلنا فنحن شهداء.. هيا لنصلي وإن قابلنا ربنا نقابله صائمين مصلين”
شارع المدينة الوحيد خاوي حتى من الكلاب المحلات مقفلة .. إطارات السيارات وكتل حجرية هنا وهناك تقطع الشارع.. . نتوغل وسط صمت مريب إلا من عيون نشعر بها من أسطح ونوافذ المباني المصطفة حوالينا مدينة أشباح. فجأة تتعالى أصوات الرصاص.. من شوارع قريبة.. أنحرف السائق في هلع باتجاه شوارع فرعية.. أدركنا بأنا في ورطة.. أستمر يقود عربته في أزقة ترابية حتى كنا في أطراف المدينة من الجهة الأخرى ولا زالت أصوات الرصاص تتعالى من قلب المدينة.
الساعة الثالثة عصرا مكثنا هنا نرقب حالنا لساعات مالت الشمس للغروب بعدها خرجنا باتجاه الأطراف الجنوبية للمدينة الصغيرة.. لا نعرف الاتجاه الصحيح إلى الطريق الإسفلتية خارج قعطبة.. كانت الشمس قاربت على الزوال. فجأة ظهرت مجموعة نساء يحملن على رؤوسهن أواني وخلفهن سرب أطفال.. يفرون من المدينة.. سألنا إحداهن أشارت علينا بالاتجاه غربا..
أرض ترابية جافة
عانت السيارة الصغيرة من صدمات الأرض الغير المستوية وقبيل زحف الظلمة كنا على طريق إسفلتية نتابع طريقنا مبتعدين عن قعقعة رصاص بعيدة ووميض انفجارات .. ..
تسير بنا العربة الصغيرة في طريق طويل تقتطعه نقاط المسلحين .. نواصل وقد تغلبت علينا بلادة غريبة .. وكـنا كائنات فقدنا مشاعرنا .