كان طابوراً مدرسياً مختلفاً، قدّمتها مديرة المدرسة لنا بأنها إحدى طالبات مدرسة أسماء بنت شهاب في بعض سنوات تعليمها التي قضتها في محافظة إب رؤوفة حسن الصحفية والمذيعة، لا أذكر من أسئلة مديرة المدرسة الأستاذة الفاضلة حبيبة الخمري ولا من ردود الراحلة الحبيبة الأستاذة الدكتورة رؤوفة حسن شيئاً.
ومرت السنوات، كنت أخطو مسرعة في أحد ممرات كلية الآداب بجامعة صنعاء استوقفتني تسألني: تعرفي أين قاعة ابن الأمير؟ كانت أول وجه التقيه وأنا أبحث أيضاً عن القاعة التي ستشهد اختبارات قبول طلبة الدفعة الأولى إعلام.
كنا نشعر أنا محظوظون ومتميزون ومختلفون في قسمنا الذي ترأسه وتحاضر فيه، وكان مقرر مادة الإعلام والتنمية مستفزاً للتفكير، الحيرة، النقاش، إعادة النظر، كان مقرراً كخلية نحل
كانت تتطوع إن وافق خروجنا من قسم الإعلام بشارع الزبيري فتوصلني وإلهام بسيارتها إلى جولة كنتاكي، دقائق لا تُنسى ونحن نردد سوياً مقاطع لفيروز.أذكر اننا افترشنا رمال شاطئ الحديدة في الرحلة العلمية التي نظمها قسم الإعلام الذي كان أكثر الكليات حيوية ونشاطا وأقلق الكثيرين حينها, انقضت سنواتنا الأربع في الجامعة، وفي الممر نفسه الذي سألتني فيه عن قاعة ابن الأمير، سألتني عقب تخرُّجي مباشرة: بلقيس تشتي تشتغلي؟ قلت لها: أيوه، قالت: روحي للدكتور عبدالوهاب الآنسي في التثقيف الصحي، وهناك وقعت عقد عمل مدته عام في الإدارة العامة للاعلام والتثقيف الصحي انعكس عملي فيها على توجهي العلمي والعملي ودراساتي العليا، وفي العام نفسه عدت وبعض زملائي إلى مقاعد الدراسة طلاباً في دبلوم الدراسات الاجتماعية والنسوية في مركز دراسات النوع الاجتماعي الذي أسسته ورأسته الراحلة وحاضرت فيه، كانت دائماً تثير المياه الراكدة، حينها كنت أجهز لعرسي وكنت أرى في عينيها قلق وخوف المعلمة والأم.
التقيتها بعد ذلك في دار الأوبرا بالقاهرة كنت حينها في السنة التمهيدية للماجستير وثالثتنا العزيزة أروى الشرجبي، وكلما نلتقيها نحرص أن نعطيها ما يشبه التقرير عما نعمل وننوي، قالت لي حينها: (عادة من يحاربوك يفيدوك أكثر من الأصدقاء!)
في السنة التالية رفعت سمّاعة التليفون لأرد فإذا هي الدكتورة رؤوفة اتفقنا على لقاء وفي كل لقاء بي أو بأي من أبنائها كانت تطمئن على الجميع، قضينا يوماً طويلاً في معرض القاهرة الدولي للكتاب بين أجنحته الحافلة، واختتمنا ذلك اليوم بحضور أمسية شعرية للعملاق الأبنودي، عدنا بسيارتها عبر كوبري أكتوبر من مدينة نصر حيث المعرض، أيامها كنت أحاول أن أضع يدي على موضوع رسالة الماجستير توقعت أنها ستقترح لي عنواناً، لكنها قالت لي بالحرف الواحد ستصلين إلى موضوعك عندما تشعرين بالضياع التام ويداها على مقود السيارة وفي وجهها ابتسامة استفزتني كثيراً، لكنها كانت بالنسبة لي درساً آخر تلقيته، بعدها في يوم صيف ماطر في منزلها بصنعاء سألتني عما استقر عليه اختياري لموضوع الماجستير، قالت لي عندما سمعت العنوان: موضوع لباحث يعرف ما يريد.
في فترات لاحقة كنا نتواصل عبر الإيميل، كلما أفتقتدها أبحث عنها على صفحات الانترنت.
آخر لقاء جمعني بها وجهاً لوجه قبل شهور من رحيلها .. كنت وزوجي وولداي نسير في شارع جامعة الدول العربية بالقاهرة لمحتها في معطم التابعي.. كم كانت فرحتي، دخلت وسلمت عليها، كان المرض قد بدأ ينشب فيها أظافره ومع ذلك كانت في رحلة عمل.. قدمتني لرفيقتها في الرحلة وعلى الطاولة بأنني ابنتها، قلت لها إنني في انتظار رد مشرفي على رسالة الدكتوراةلتحديد موعد مناقشة الرسالة.
قالت لي: إنها بحثت عني في الفيس بوك، وشكوت لها أن زوجي وولدايَّ يسيطرون على جهاز الكمبيوتر ليل نهار، ضحكنا كلنا وغادرناها على وعد بالتواصل.
عندما اجتزت مناقشة الدكتوراه بشرتها ببريد الكتروني، كتبت لي أنها كانت موجودة في القاهرة وأن حالتها الصحية منعتها من مشاركتي ذلك اليوم الذي وصفته بأنه أسعد يوم في حياتها.. وكم كانت تتمنى حضوره.
تواصلنا بعدها باستمرار خلال الأشهر الأخيرة، كتبت لها من حساب زوجي على الفيس بوك أطمئن عليها.. ردت عليّ عاتبة:
بماذا أعزي نفسي، هل هذه هي الاستقلالية التي زرعتها فيكم تحدثيني من حساب عادل، أنشأت على الفور حساباً لي رديت عليها: حبيبتي إنما هو الانشغال بين الدراسة والالتزامات الأسرية إلى الحد الذي يصفه المصريون »هو أنا فاضي أهرش«، وتحت إلحاحي أعطتني رقم هاتفها المحمول.. وقبل مغادرتي القاهرة في 02 يناير مطلع 2011هاتفتها راجية أن تسمح لي بزيارتها قبل سفري، ولم تكن حالتها الصحية تسمح.. كان صوتها متعباً كثيراً وموجعاً لي أكثر، بقي الفيس بوك وسليتنا للتواصل.. وحتى أيامها الأخيرة كانت تطمئن على أبنائها وبناتها،
آخر رسالة تلقيتها منها قالت لي إنها بانتظار الجراح الذي سيجري لها العملية ، وبعدها لم ترد عليّ.
صباح 27من شهر ابريل2011 إلهام من مكتبها في وكالة سبأ تنقل لي خبر رحيلها المفجع و الموجع..
سيدتي الراحلة لقد اختصيت نفسك بذلك الحزن العميق..لم يكن مقالك الاخير مقالا واحد ,وانما رؤوس أقلام ,ومفاتيح لمقالات ومقالات ودروس ودروس ,وكل كلمة فيه تقف ورأها معان ومعان.
سيدتي القادمة الى فضاءات المستقبل لن يفرغ حبر قلمك ولن تسكت شهرزاد .ستظل ذكراك قوية متجددة كشمس بلادي,كأخضرار إب في شهر آب,صافية كصفاء سماء صنعاء في صباحات الشتاء.رائعة كأنتصاف البدر في ليالي تعز، استثنائية كأشجار سقطرى،حاضرة كشواطئ بلادي…طيبة كقلوب أهلها.
*من صفحتها في (الفيس بوك)