طالما كانت وما زالت الجغرافيا هي العنصر الثابت الوحيد والأكثر تأثيرا في السياسة ، يزداد تأثيرها وضوحا وفاعلية في الوحدات السياسية المتجاورة ، ولعل جنوب الجزيرة العربية ، حيث اليمن الذي يمثل الحاضنة الجنوبية لها كان في الماضي كما هو حاضره ، أحد أهم القوى الفاعلة لما يمتاز به من موقع جغرافي مميز بتحكمه بأهم المضايق الاستراتيجية على الصعيد الاقتصادي وتوريدات الطاقة المارة عبره ، ولارتباطه العضوي بالإقليم النفطي في منطقة الخليج العربي ، أضافة إلى صلته المباشرة بقناة السويس أعلى شمال البحر الأحمر ، كطريق بحري لناقلات الطاقة نحو أوربا والعالم ، فهو بهذا المعنى البلد المفتاح الذي لا يمكن تجاهل تأثيراته الحتمية .
أما على صعيد الكتلة البشرية، فأن اليمن بتعداده السكاني الكثيف وتجانسه المجتمعي، يمثل الخزان البشري الأكبر من الكتلة البشرية لعموم سكان الجزيرة والخليج العربي.
من هذه الحقائق الثابتة، التي لا يمكن تجاهلها، فأن اليمن يمثل لهذه المنطقة الحيوية والمُهددة من الاطماع الأجنبية صمام أمان ثابت لو استثمرت ووظفت طاقاته وأمكاناته في أطار منظومة هدفها الأخير ضمان الأمن والاستقرار لهذه المنطقة المضطربة، في حين أننا نرى أن الواقع المعاش عكس هذا تماما، فقد عملت الكثير من الأطراف، ليس فقط تهميش دور اليمن وإنما تعرض لمحاولات مستمرة لإضعافه والإبقاء عليه في دائرة التخلف لكي يبقى أسير تعطيل طاقاته.
أن دول الخليج النفطية ، تخضع ومنذ اكتشاف النفط فيها إلى الابتزاز من القوى العظمى ، حتى حولتها هذه القوى الى بؤرة الى الصراع بدل أن تكون منطقة أمنة بعيدة عن الازمات ، ولعل أهم مكامن الضعف في منظومة دول مجلس التعاون لدول الخليج ، هو هشاشة التكوين المجتمعي فيها ،خصوصاً وان بعض دول مجلس التعاون الخليجي يشكل فيها عدد الوافدين الاغلبية، وان لم يكن اغلبية فهم يشكلون نسبة كبيرة الى نسبة السكان الاصليين الامر الذي ينعكس سلباً على مناحي كثيرة ليس اقلها تأثيرهم السلبي على اللغة والمنظومة الثقافية لهذه المنطقة، وبدل من الاستعانة بالخزان البشري اليمني ، استعانت تلك الدول بالعمالة الأجنبية ، الاسيوية منها بشكل خاص ،للتعويض عن النقص الحاد في السكان بالمقارنة مع سعة الرقعة الجغرافية ، في حين أن اليمن وما تمثله حقائق ارتباطه العضوي ، التاريخي والمجتمعي مع مجتمعات الخليج ، كان وما يزال هو الاجدر والأكثر أمانا لو كان هو البديل لمعالجة المعضلة السكانية المزمنة في دول الخليج ، ودرء الخطر الكامن والقابل للانفجار نتيجة مخاطر وتبعات الكثافة السكانية للعمالة الأجنبية العاملة في الخليج العربي والتي تؤثر على المستوى المنظور والبعيد على المستقبل السياسي والمجتمعي لهذه الدول .
ربما يجادل البعض بالقول، ماذا يستطيع اليمن تقديمه من عون لأنفاذ دول مجلس التعاون من كارثة حتمية قادمة لا مجال لتفاديها أن لم يتم العمل على تداركها منذ الان؟
كما أشرنا أنفا ، اليمن خزان بشري أمن ، فلم يُعرف عن الشعب اليمني وعلى امتداد تاريخه الطويل والعريق أنه كان يمارس أو مارس دور أيذاء لبيئته العربية ، وخاصة الأقرب اليه جغرافيا ، حيث تربطه مع مجتمعات الخليج أواصر قربى ونسب واصل واحد ، وحتى الجاليات اليمنية المتواجدة في بعض دول الخليج ، والبعض منها يشكل عناصر مهمة ذات وزن كبير في المجالات التجارية ، كانت هذه الجاليات وما زالت عناصر أمنة لم تشكل أي خطر على تلك الدول ومجتمعاتها ، وهكذا الحال مع المجتمع اليمني بأسره الذي يمتاز بالطيبة بفطرته ، فهو أذا عنصر إيجابي أمن وليس كما هو حال العمالة الأجنبية الوافدة التي استفحلت تأثيراتها السلبية على المجتمع الخليجي لجهة العلاقات الاسرية بسبب الاختلاف والتباين في الثقافات والعادات والأصول وانعكاساتها السلبية على خلايا الاسرة .
أخيرا نقول متى يعي أولي الأمر هناك الذين أوغلوا في العدوان، هذه الحقائق ويدركوا أن اليمن هو عمقهم السكاني والحضاري والمستقبلي أذا ما أرادوا تدارك المجهول القادم، وأن أيذاء اليمن والعمل على أضعافه أنما يعني انكشافهم المستقبلي، وعندها يواجهون مستقبل حرج الخيارات، لا ينفع حينها الندم، فالحكمة المتأخرة لا قيمة لها.