من سبعينيات إلى تسعينيات القرن العشرين انتشرت تقارير عن وجود مخططات لتقسيم الوطن العربى إلى «كانتونات» طائفية، عن طريق إيقاظ الخلافات المذهبية والعرقية كمقدمة لتفتيت كل دولة عربية إلى دويلات، لكل منها عنوانها الطائفى، العراق دولة سنية، وأخرى شيعية، ودولة كردية فى الشمال، وتقسيم سوريا إلى دولة علوية، وأخرى سنية، واقتطاع جزء للأكراد ينضم إلى الأكراد فى العراق وتركيا.
وأصبح المذهب الدينى أو الدين نفسه سلاحا يدمر دولًا بكاملها، وأداة من أدوات الصراع السياسى الذى أخذ بعدا طائفيا فى مناطق عديدة من العالم العربى، بسبب تدخل الأجندات الخارجية التى تروج الشعارات الدينية، وتذكى النعرات الطائفية لتجييش المقاتلين ضد معسكر المذهب الآخر، بغرض الوصول إلى أهداف سياسية.
ولم تكن موجات العنف والحروب الطائفية على أسس دينية وعرقية بعيدة عن مخططات أعلن أنها وضعت فى العقود الماضية لتفتيت وتقسيم الوطن العربى، مع حديث عن أن عام 2018، يكون مر قرن على اتفاقية «سايكس بيكو» التى قسمت الدول العربية بحدودها الحالية، وأن المشروع الجديد يهدف إلى تفتيت الدول العربية إلى دويلات على أساس طائفي ومذهبي.
ومن أشهر مخططات التقسيم «وثيقة برنارد لويس» التى أقرها الكونجرس الأمريكي عام 1983م، وبرنارد لويس مستشرق بريطاني ومؤرخ مختص فى الدراسات الشرقية الأفريقية، وصاحب أخطر مخطط طرح فى القرن العشرين لتفتيت الشرق الأوسط إلى أكثر من ثلاثين دويلة اثنية ومذهبية، وهو منظر سياسة التدخل الأمريكية فى المنطقة العربية أثناء إدارة الرئيس الأمريكي جورج بوش، ويقوم على إشعال النعرات الاثنية والعرقية والدينية فى العالم العربي والإسلامي، من خلال استثمار التناقضات العرقية والعصبيات القبلية والطائفية.
ويذهب محللون إلى أن تنظيم «داعش» صناعة أمريكية، وبداية لتنفيذ مخططات التقسيم، بدليل انتشاره فى العراق وسوريا وليبيا، حيث يرتكب جرائم ضد المذاهب المختلفة، وضد الأقليات الدينية، بما يساهم فى إشعال الطائفية، ليقود إلى تمزقات داخلية، وأن مزاعم «دولة الخلافة» هى بداية تقسيم المنطقة العربية.
كانت «الفتنة» هى الفزاعة التى رسخ لها الإنجليز واستغلوها لإخضاع الشعوب المستعمرة، تنفيذا لسياستهم المعروفة «فرق تسد»، وكانوا يعتمدون على الأقلية فى أي بلد تحت سيطرتهم، لخلق فجوة عميقة بين هذه الأقلية وبقية الشعب، فمن جهة، تؤدي هذه السياسة لتفتيت الوحدة الوطنية وتجعل الشعب مفكك وضعيف فى نضاله من أجل التحرر، كذلك تجعل هذه الأقلية ضعيفة إزاء الأغلبية، ومن أجل استمرارها فى السلطة، تضطر إلى أن تعتمد على الدعم الخارجي «المستعمر»، واضطهاد الأغلبية فى الداخل، وبذلك تسهل سيطرة المستعمر على ذلك الشعب، بربط ديمومة حكم النخبة مع مصالح المستعمرين.
لقد اهتم السياسيون الصهاينة بمسألة الأقليات فى العالم العربي، وادّعوا أن الحدود التي رسمت للمنطقة إثر الحرب العالمية الأولى ظلمت الأقليات العرقية والطائفية، فمنذ ما قبل قيام الكيان الإسرائيلي كان هناك اهتمام صهيوني بمشاريع التفتيت والتقسيم، واتصلت الحركة الصهيونية منذ أواخر الثلاثينيات من القرن الماضي ببعض الأقليات فى لبنان والعراق، من أجل حضهم على التمرد والانفصال، فقد اتصل مردخاي بن فورات وشوشانا أربيلي بالأكراد فى العراق، وإيلياهو ساسون وإيسر هرائيل «رئيس جهاز الموساد» بالأقليات فى سوريا ولبنان.
ورأى «بن جوريون» أول رئيس لإسرائيل من مايو 1948 حتى يناير 1954، ومن نوفمبر 1955 حتى يونيو 1963 فى التكوينات العرقية والطائفية فى البلاد العربية فرصة للإسهام فى تضخيم الخلافات، لتتحول فى النهاية إلى معضلات يصعب حلها، وطالب «بن جوريون» بعمل مخطط عُرف فيما بعد بـ«استراتيجية الأطراف»، أو استراتيجية شد الأطراف، وقد قام بوضع المخطط ريفون شيلوح الموظف فى الخارجية الإسرائيلية، وهو يقضي بتطوير علاقات «إسرائيل» مع الدول الأجنبية «غير العربية» المحيطة بالبلاد العربية كإيران وتركيا وإثيوبيا، لتكون مصادر ضغط وتهديد على البلاد العربية، ولإبقاء بؤر الصراع قائمة بينها.
وطورت هذه الاستراتيجية لتصبح استراتيجية «شدّ الأطراف ثم بترها»، من خلال التركيز على التعامل مع الأقليات وتشجيعها على الانفصال، وقد سبق لأرييل شارون فى مقابلة مع صحيفة معاريف فى 18/12/1981 وقبل غزو لبنان ببضعة أشهر «عندما كان وزيراً للدفاع» أن ذكر أن الظروف مواتية لتحقيق مشروع تفتيت الدول العربية، وبسط الهيمنة الإسرائيلية على المنطقة.
وتحدث شارون عن الصراع المحتمل بين الشيعة والسنة والأكراد فى العراق، وبين السنة والعلويين فى سوريا، وبين الطوائف المتناحرة فى لبنان، وبين الفلسطينيين والبدو فى شرق الأردن، وبين السنة والشيعة فى المنطقة الشرقية بالسعودية، وبين المسلمين والأقباط فى مصر، وبين الشمال المسلم والجنوب الوثني المسيحي فى السودان، وبين العرب والبربر فى المغرب العربي الكبير.
ومن الدراسات التى وضعت فى هذا الإطار دراسة عوديد ينون الموظف بالخارجية الإسرائيلية بعنوان «استراتيجية إسرائيل فى الثمانينيات»، حيث تركز على تجزئة العالم العربي وإضعافه، أما المفكر الصهيوني يحزقيل درور، فتحدث فى كتاب «استراتيجية عظمى لإسرائيل عام 1990» عن تقويض الكيانات العربية وإسقاطها وتفتيتها، وإثارة الحروب والنزاعات فيما بينها، وتفتيت المجتمعات العربية من الداخل عن طريق دعم الأقليات غير العربية وغير المسلمة.
كما كتب ألوف بن رئيس تحرير صحيفة «هآرتس» مقالا فى 25/3/2011 أثناء بدايات الربيع العربي ، أن الغرب مثل «إسرائيل» يفضل شرق أوسط متشظياً ممزقاً ومنشغلاً بصراعاته، وتقاتل أنظمته على عدة جبهات ضد الوحدة العربية وضد الوحدة الإسلامية.
وقال إن الخرائط التى رسمت للمنطقة قبل نحو مائة سنة تشهد الآن إعادة تحديث لتظهر دول جديدة كجنوب السودان وكردستان وفلسطين وربما برقة «سرنايكا» شرقي ليبيا، وجنوب اليمن، كما ستتفكك الإمارات العربية المتحدة، مع احتمال تقسيم السعودية بانفصال منطقة الحجاز عن مناطق البترول فى الشرق، كما قد تنقسم سوريا إلى دويلات سنية وعلوية ودرزية. وحسب «ألوف بن» تشكلت هذه الدول دون رغبة مكوناتها، وسيترك الآن الخيار لإعادة تعريف نفسها.
«لبنان» هى كلمة السر فى بروز الصراعات الطائفية فى العالم العربى فتركيبة الشعب اللبنانى متعددة ومتصارعة «27-30% سنة، و27-30% شيعة، 23% موارنة، 7% دروز، وأرثوذكس، وأرمن، وعلويون…»، وقد دخل لبنان عام 1975 فى حرب أهلية دموية، أودت بعشرات الآلاف من القتلى، كان البعد الطائفي فيها موغلاً بين المسيحيين والمسلمين، وبين الشيعة والسنة من جهة ثانية، بالإضافة إلى أقليات أخرى، ولم تتوقف تلك الحرب الضروس إلا بعد اتفاق الطائف سنة 1990، وبالرغم من الاتفاق ظلت محاولات اللعب على الطائفية مستمرة، ولم يتعلم أحد من درس لبنان.
فى «لبنان» برز سعى إسرائيل وأمريكا إلى تضخيم البعد الطائفي كمحدد أساسي للسياسة والحكم، ويرتكن الكثيرون فى تفسير تصعيد التوتر السني الشيعي فى المنطقة على نظرية المؤامرة من قوى غربية على رأسها الولايات المتحدة، فضلاً عن إسرائيل والدعم الصهيوني والغربي لمشاريع التفتيت والتقسيم، وامتلاكه وسائل تحريض إعلامي ودعائي وسياسي هائل، وتوفيره أدوات دعم «غير بريئة» بحجة حماية الأقليات، والسعي المستمر للضرب على أوتار حساسة كمخاطر التهميش والذوبان والاضطهاد، ويتم ذلك عبر أنظمة سنية فى المنطقة حليفة للغرب، حيث كانت الفتن أهم جزء من مؤامرات الاستعمار والسيطرة على الدول.
إن حالة اللااستقرار، وضعف الأنظمة المركزية، ودخول بعضها فى مراحل انتقالية، أغرت بعض القوى الخارجية بالدفع باتجاه مشاريع التفتيت، لكن عملية التفتيت والانقسام الطائفي والعرقي ستبقى فى إطار رغبات وأماني القوى الصهيونية والغربية، ما لم تجد لها وكلاء محليين وبيئة طائفية أو عرقية داعمة.
منذ اليوم الأول لغزو العراق سنة 2003، بدأت أمريكا اللعب على الأوتار الطائفية والعرقية، من خلال إحياء الأحقاد التاريخية، ما يمكنها من تحقيق غاياتها وطموحاتها الاستراتيجية فى العراق، وإضعاف المقاومة التى تزايدت ضد قوات التحالف الدولي، وأدى الاحتلال الأمريكي للعراق إلى انتقال للسلطة من الطائفة السنية إلى الطائفة الشيعية، ونقل السلطة والثروة من الطائفة السنية إلى الطائفة الشيعية، من خلال السماح للقوى والأحزاب السياسية الشيعية بالسيطرة على نظام الحكم الجديد، وإدارة وتوزيع ثروات البلاد.
وتبنت سلطة الاحتلال بقيادة «بول بريمر» العديد من السياسات التى أدت إلى تعميق الانقسامات الطائفية والاثنية، وتغذية التوترات، وأول هذه السياسات تشكيل مجلس حكم يقوم على الحصص الطائفية، ولأول مرة فى تاريخ العراق، أصبحت الطائفية المبدأ الرئيسي المنظم للسياسة والحكم فى العراق، وكان قرار حل الجيش العراقي بكل صفوفه وأجهزته الأمنية هو الذى خلق فراغاً أمنياً رهيباً ملأته التنظيمات الإرهابية، كتنظيم «القاعدة»، والميليشيات الشيعية كـ«فيلق بدر» و«جيش المهدي »، والتى كانت الفاعل الرئيسي فى الصراع الطائفي الذى عاشه العراق منذ فبراير 2006، وكانت وراء معظم التفجيرات والاغتيالات، وأكد رئيس الوزراء «المالكي» وقتها أن هناك مؤامرة غربية لتدمير البلاد بسلاح الفتنة.
وتعد العراق من أكثر الدول العربية التى التهمتها الطائفية، حيث نجحت الدول الغربية فى خلق فزاعة دينية وهى جماعة «داعش»، التى ارتكبت عدة مجازر فى شمال العراق، وأشعلت الفتنة والصراع بين الشيعة والسنة، فقد نجحت «داعش» فى تحقيق عدة انتصارات ، مما هدد بتقسيم العراق إلى دولة كردية فى الشمال، وسنية فى الوسط، وشيعية فى الجنوب، وهى تسعى لإنشاء دولة إسلامية فى العراق والشام، جاءت بالفتنة الطائفية من أوسع الأبواب بين السنة والشيعة، بعد أن تدربت على الأراضى السورية لتنفيذ مخططها بتدمير العراق، وتم تفسير ذلك على أنه مؤامرات غربية تقف وراءها وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، لتأجيج الفتن الطائفية، مما أدى لدمار العراق، وهى بالتأكيد ليست من صنع العراقيين.
إن النجاح الأمريكي فى ترسيخ المعطيات الطائفية والعرقية «شيعة – سنة – أكراد» فى العراق، فتح شهية البعض للسير فى الخط نفسه فى باقى المنطقة العربية، حيث تم زرع العرقية والصراع القبلى فى السودان، الأمر الذى انتهى بانفصال جنوب السودان، مع استمرار احتمالات الصراع فى دارفور.