حقًا، لقد كانت الفنانة منى علي، المكتظة بالعذوبةِ و ساحريةِ الغناء، قربانًا للتهميشِ و الضياع المجتمعي الطويل.
في مجتمعٍ ما زال ينظرُ للمرأةِ على أنها مجرد هامش، ناهيك عن امتلاكها أدوات الفن و الجمال، فهذا الأمرُ سيضاعفُ من محاربتها و نبذها خارج سياق الإنسانية، بدوافع و تقاليد تتنافى مع كل قيم المحبة!
بالضرورةِ، هي أرواحٌ شريرةٌ و مريضة، تلك التي تتعارضُ مع التدفق الموسيقي و الغنائي، و لأن الموسيقى سلسة على نحوٍ خرافي، فهي لا تستدعي الآخر بل تذهبُ إليه!
ضمن مؤتمر صوت الثقافات الموسيقية و انتقالها في عالمِ الإسلام و تحت مسمى (الذات في الموسيقى) يتمُ تدارس أن من فضائل ما بعد الحداثة، أنها تكشفُ عن ما يُسمى بالسرديات الكبرى المتصلة بحياة الجماعات، و تسعى إلى العودةِ للتفكيرِ بالفرد، بمعنى دراسة الفرد في تفاصيلِ يومه، و البحث عما يقبعُ في هامشِ معيشته، و يبدو أن في الموسيقى ما يوفر مجالًا للبحثِ عن منسيّات الذات الفردية.
و تم التطرق في المؤتمرِ إلى أن الموسيقى بالضرورةِ تحضرُ في الذاتِ بقوةٍ و تبثُ الشجون و الطمأنينة، مستشهدين بترانيمِ الأمهاتِ لإنامةِ الأطفال، و موسيقى الميلاد و الزواج والجنائز!
للحديثِ عن العطاءِ الغنائي الذي قدمته منى علي، شجونٌ و مخاوف، لقد أستطاعت رسم ملامح المحبة في وجوه السواد الأعظم من الجمهور الفني اليمني.
خلال عقود طويلة، ظلت تترنمُ بألحان الزفةِ و تزفُ الفرحَ نحو الحميع!
عاشت الفنانة يتمية الأم و لاقت صنوف القهر حتى من أقاربها، و وفق تقرير للصحفية منى الكمالي، يتحدثُ عن الفنانة، بيّن أن زوجة والدها كانت تعملُ على إعاقتها في إمتهان الغناء بحجةِ أنه أمر معيب و مهنة ليست محمودة، الأمرُ الذي دفع الفنانة للرحيل إلى محافظة تعز، و يذكرُ أن أصولها تعود إلى مديرية العدين بمحافظة إب، و كان أسمها الحقيقي غانية، و منى علي أسم اكتسبته بحكم الشهرة في الغناء.
بالرغمِ من نظرةِ النقصِ و النبذِ الاجتماعي لمن يعتنقُ مجال الفنِ و يؤمنُ بمبادئِ المحبة، فقد قاومت الفنانة منى علي كل أشكال القُبح المرمية نحوها وتمردت بشكلٍ محمود مصدرةً عبق الغناء الطروب و ثقافة السلام و البهاء!.
و من ضمن التعسف و أشكال الكراهية التي لا قتها الفنانة، أنها تزوجت أكثر من مرة، لكنها سرعان ما قابلت مصير الطلاق من جميعهم، لأنها كانت تنحدرُ بسرعةٍ نحو الشهرةِ الفنيةِ الواسعة، و لأن أولئك الذكور الضيقين لا تليق بهم العظيمة و الجميلة منى علي.
كان لمنى علي التقاءات فنية واسعة مع فنانين يمنيين، أبرزهم الفنان البديع أيوب طارش، و يذكرِ تقرير الزميلة منى الكمالي، وقوف أيوب الجاد مع الفنانة حيث كانت تعتبره الأستاذ و السند لها، و لهم لقاء غنائي واسع، كما تشيرُ المصادر الفنية أن منى علي كانت السبب في تعارف الشاعر الفضول، عبدالله عبدالوهاب نعمان بالفنان أيوب طارش.
كلما سُمِعَ صوت منى علي، تهافتت الصبايا لنقش أكفهن و تبشرت العرائس بمقدمِ حياةٍ أخرى.
هي حقًا ارتطام المطرِ بالنيذ، و اكتظاظ الغوايةِ بالخلود!
حين تغني الزفة، تقتربُ مواعيد القطاف، ثم تتهيأ الأجساد للرعشة، إنها دومًا تدعو إلى المحبةِ و الخير.
رحلت الفنانةُ إلى الجميلِ الذي يحبُ الجمال و زرعه فيها، غادرت إثر مرضٍ أليمٍ في العام 2009م، لم يلتفت إليها أحد، تُركت للوحدة تنهشُ لحظاتها الأخيرة في الحياة، في مشهدٍ تراجيديٍ يدمي القلب و يصيب الضمير بمقتلٍ و حرقة!
لم ترعاها الدولة و لم تنل حقوقها، لقد مورس ضدها و بحق كل فنان و فنانة اقصاءات جمة، فما زال غياب الوعي الفني و تعييب الفن شبحًا يعربدُ في عقول الكثيرين.
نحنُ أمام لحظةٍ فنيةٍ حرجة، إما أن ننتصرُ للفنِ و نكبرُ معه، أو نتراجع عن هذا الخيار الضوئي و ننكمشُ في سوداويةٍ لا تتركُ مجالًا للحب.
لابد من توعيةِ المجتمع، ليدركوا أن أمة بدون فن هي بلا هوية..!