عصام واصل
النصوص الخالدة لا تترجل، والأدباء الخالدون لا يموتون. ثمة أديب ينتهي قبل أن يولد، وأديب يعيش قبل أن يتنفس هواء هذه الحياة، وإن انطفأت عيناه فإن نصوصه تحيا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. تظل نصوصه تثير الدهشة وتملأ القلب وتؤثث الروح. إنها نصوص لا تغادر القلب بل تلتصق به وتؤثث جوانبه بالمعنى.
الشاعر اليمني محمد حسين هيثم، من هؤلاء الذين لا يغادرون، لا يترجلون ناصية الدهشة، فمنذ أن انطفأت عيناه واسترخى في مرقده الأبدي في الـ 2 من مارس العام 2007، ونحن لا نشعر بغيابه فيزيائياً، فهو حاضر أبداً في نصوصه، وعوالمه التي لا تشبه عوالم غيره، على الرغم من بعض المقولات التي ترى أنه قد تماثل مع سعدي يوسف في بعض نصوصه… فهذا القول لا يهم بقدر ما يهم أنه قد أنجز مدونة شعرية، مثلت نسقاً هاماً ومختلفاً في البنية الإبداعية اليمنية، فهو نسق قائم الذات إلى جوار نسق البردوني ونسق المقالح ونسق العواضي ونسق شوقي شفيق ونسق جنيد محمد الجنيد… إلخ. إذ لكل واحد من هؤلاء صوته ونسقه وشجونه.
ويعد هيثم، الذي ولد في الـ 8 من نوفمبر العام 1958، من أهم شعراء جيل السبعينيات في اليمن، وأكثرهم تنويعاً في أدواته وموضوعاته، وإيغالاً في الشعرية والتجريب. وعلى الرغم من ذلك، لم يحظ شعره بالدرس والتحليل الذي حظي به شعر معظم من سبقوه وجايلوه وجاءوا من بعده ربما، وهو ما كان يمثل بالنسبة إليه، حسرة كما قرأت ذلك في تقاسيم وجهه ذات حوارات متعددة أثناء لقاءاتنا في مركز الدراسات والبحوث، أو في اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين. وهذا لا يعني أن شعره لم يدرس، بل درس، لكن معظم الدراسات التي تطرقت إلى شعره كانت مجاملات، وبعضها كان يحاول أن يتقرب من الرجل لا لشعره، بل لمركزه ومنصبه حينذاك. بالإضافة إلى بعض الدراسات الأكاديمية، التي حاولت أن تنفرد بنص شعري أو بأكثر، لكنها لم تكن قد تطرقت إلى رؤيته الفنية في مجملها، وهي رؤية لا تزال تمثل عالماً بكراً في انتظار الباحثين، الذين قد يجوسون عوالمها ذات يوم.
التحق هذا الشاعر المرهف بالمدرسة في العام 1965، وأنهى الثانوية العامة في العام 1978، والتحق بكلية التربية في جامعة عدن بعد ذلك، ليتخرج من قسم الفلسفة في العام 1983. وأثناء دراسته، عشق الصحافة وعمل صحافياً، ليتم تعيينه في العام 1990، بعد تخرجه في القسم الثقافي لصحيفة «الثوري».
وعلى الرغم من عمق تجربته الشعرية، وثقل مركزه ومكانته العملية والعلمية، فإن صاحب المجموعة الشعرية «مائدة مثقلة بالنسيان»، لم يحظ بتكريم يليق به في حياته أيضاً، إذْ كعادة هذا البلد، لا يحتفي بأحد إلا بعد رحيله؛ حيث تقام حفلة صغيرة عابرة، يصرف فيها منظموها مبلغاً أكبر منها. بل لا يقيمها منظموها إلا من أجل هذا المبلغ فقط. هيثم، لم يكن ينتظر هذه الحفلة ربما. فهو «عبد العليم الذي مات»، وعاد من موته ليرى المشيعين والمؤبنين اللصوص والمنافقين، ويعتذر لهم أنه قد أربكهم وأثقل كاهلهم برحيله وتشييعه. وربما لا ينسى أن يمتن لنفسه أنه قد ترك لهم فرصة لاختلاس مبلغ مالي معين.
لم يكن حظه من الدراسات والتكريم، كما هو في التعيينات والانتقال من وظيفة إلى أخرى، إذ لم تتوقف به عجلة العمل في صحيفة «الثوري»، بل تعددت تعييناته بعد ذلك، كما تعددت توجهاته الشعرية، فقد التحق بدائرة الدراسات اللغوية والأدبية في مركز الدراسات والبحوث اليمني في صنعاء، بدرجة باحث، ثم ترقى إلى أن أصبح نائباً لرئيس المركز، حتى وفاته، وأثناء ذلك، شغل منصب أمين عام اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين، وكان عضواً في المكتب التنفيذي للاتحاد، بالإضافة إلى ترؤسه تحرير عدد من المجلات الأدبية اليمنية.
وطوال مسيرته الإبداعية، أنجز مجاميع شعرية مختلفة كمّاً ونوعاً، منها «الحصان، اكتمالات سين، مائدة مثقلة بالنسيان، رجل ذو قبعة ووحيد، رجل كثير، استدراكات الحفلة»، بالإضافة إلى ديوان شعري باللهجة الشعبية بعنوان: «حاز بحزيك». وقد طبعت في العام 2004 (باستثناء «حاز بحزيك») تحت ما أسمي بالأعمال الكاملة، وبعد رحيله طبع له «على بعد ذئب»، هذه الأعمال في مجملها تمثل أفكار هيثم ورؤيته الشعرية.
تطغى على نصوص هذه الأعمال الشعرية، النزعة السردية حيناً، والنزعة السريالية حيناً آخر. إنهما النزعتان الأبرز في مجموع أعماله الشعرية. ومن أبرز نصوصه (وهي النصوص التي درسها النقاد وأشاروا إليها واشتهرت دون غيرها) «عبد العليم إذا مات»، و«غبار السباع – فنتازيا شعبية». وهي نصوص لا فتة فعلاً، إن في طريقة بنائها، أم في القضايا المشتغل عليها، أم في طريقة الاشتغال والرؤية الفنية والاجتماعية والأيديولوجية التي تحملها.
حالة هيثم، تؤكد أنه لا يمكن للأديب أن يترجل نصياً، فنصوصه تظل خالدة ما بقيت الحياة، لا سيما الأديب الذي يكون مُشْكِلاً ومخاتلاً ومختلفاً… هيثم كل ذلك، وهو الحي الذي يعيش معنا، وينام تحت وسائدنا بمخلوقاته الفنية، بـ«عبد العليم» الذي ابتكره وزج به في حياة إشكالية، وزج بنا معه في متعة التأويل والتخييل، وبـ«غبار السباع» الذي أثارته كائنات تتآكل وتذوي وتترك انطباعاً غرائبياً لدى المتلقي، أو بـ«قصيدة الحرب»، التي لم يلتفت إليها النقاد، وهي القصيدة التي ترسم وحشة الحرب وفداحة ما ترتكبه في حق الإنسانية، الحرب الجارحة للروح والإنسان.
إنه هيثم، المختلف المؤتلف في آن. هيثم الذي عاش فعلياً فترة وجيزة، لكنه أنتج ما يفوق تلك الفترة، متجاوزاً جيله بسنوات إبداعية شاهقة جداً. هيثم الذي مات، ليولد ثانية، ويولد ليخلق عالماً تأويلياً مختلفاً… هيثم المختلف، المؤتلف، المربك، والشاهق فينا كقصيدة «الهائيين».
العربي