المقصود بالأدب العامي، الأدب الذي يستخدم اللهجة الخاصة بمنطقة معينة أو قُطر معين ضمن إطار واقع لغوي قومي سائد. ويقابله الأدب الفصيح، الذي يستخدم اللغة القومية. وهو لا يطابق مفهوم الأدب الشعبي، الذي ينبغي أن يكون مجهول المؤلف كشرط أساسي لوصفه بالشعبية، أما إذا ما عرف المؤلف فإنه يصبح عامياً لا شعبياً.
وقد يتناقض هذا الرأي مع ما يشيعه بعض الدارسين من أن صفة الشعبي تلحق هذا النوع من الأدب لأنّه يناقش قضايا الشعب، ويتبنى الأهداف الشعبية. وسواء كان هذا الفهم أو ذاك أو كلاهما معاً، فإن مفهوم الأدب الشعبي لا يغطي ما يمكن أن يغطيه مفهوم الأدب العامي؛ من حيث إن الأدب العامي يشتمّل على كل ما كتب باللهجة، سواء كان مجهول المؤلف أو معلومة، وسواء كان يناقش قضايا الشعب أم قضايا القبيلة والمنطقة أو قضايا الذات، كالحب والتعبير عن الحالة الخاصة أو غير ذلك.
ومع أهمية النّقد بالنسبة للأدب فقد ظل اهتمّام النّاقد العربي القديم والحديث منصبّاً على الفصيح منه وقلّ أن يهتمّ بالأدب العامي، وفي تصورنا أن جملة عوامل متداخلة يمكنها أن تشكل سبباً لهذا العزوف النّقدي عن الأدب العامي:
1 – أبرزها يأتي من إلباس الصراع بين العامية والفصحى، الذي هو طبيعي وحضاري، بلبوس الإيديولوجيا أو السياسة.الأدب الفصيح سماتُه الخاصة الّتي تبرر وظيفته كخطاب جمالي
2 – لأن الأدب العامي يعتمّد المشافهة أساسا في إنتاجه وتلقيه، في حين أن الأدب الفصيح تجاوز هذه البلاغة إلى رحاب بلاغة الكتابة.
3 – ولأنّه يعتمّد المشافهة إبداعا وتلقيا وحفظا، فقل أن يهتمّ بتثبيته في مدونات.
4 – ومنها إقتصادية: أي أن مساحة انتشار الأدب العامي المحدودة مقارنة بمساحة الأدب الفصيح وتأثير هذه المساحة على المردود المادي والمعنوي للعمل النّاقد لا يغري النّاقد إلى دراسة الأدب العامي.
5 – ومنها نفسية: أي أن ما يتعرض له الأدب العامي من إهمال رسمي متعمد أحيانا يجعل النّاقد لا يشعر بالاعتزاز بعمله، فيصرف همه إلى الأدب الفصيح موضع العناية والانتشار.
6 – ومنها سياسية: فالأدب العامي في الواقع الحديث خاصة، أكثر جرأة على نقد الأوضاع السياسية والاجتمّاعية المعاشة، وإذا ما تغاضت عنه الأنظمة الحاكمة فلأنّه لا يظهر على السطح المرئي ولأنّه لا يثبت فيقرأ خارج حدود منطقته إلا نادرا، وهي أسباب شفعت له أن يظل متنفسا للتعبير عن المكبوت السياسي.
هذه العوامل وغيرها هي أكثر وضوحا في واقعنا اليمني؛ لأن الأدب العامي يدرس في أكثر من بلد متقدّم ويدخل ضمن المساقات الّتي تدرس في الجامعات، ويكون مادة للبحث الأكاديمي المؤسسي، في حين يتعرض أدبنا العامي للإهمال ومن ثم النسيان؛ لأنّه بطبعه أدب مشافهة وليس للذاكرة الجمعية أن تظل محتفظة به تتوارثه من جيل إلى جيل، وإذا ما احتفظت بالقليل منه فكثيراً ما يصيبه التحريف والتعديل الذي يبعده عن أصله ويجعل منه أدباً آخر.
وما أحوج الأدب العامي اليوم إلى تبنيه من قبل الجامعة لغرض تدوينه ودراسته والعمل على توجيهه في خدمة التنمية، وله في هذا الاستحقاق مبررات عديدة:
1 – لأنّه أولاً أدب له، كما للأدب الفصيح، سماتُه الخاصة الّتي تبرر وظيفته كخطاب جمالي، وقراءته لا بد أن تغير النظرة الاستبساطية الّتي وسمه بها بعض النقاد. بغض النظر عن ما به من الحشو وبعض الشوائب المعيبة لفنه، الّتي لا تسلبه أدبيته وقدرته التأثيرية في المتلقّي.
2 – ولأنّه قد هيأ لأصناف الأدب العربي الحديث، كالقصة والمسرحية والرواية من خلال الحكايات والسير وأدب الظل الذي نشأ في الأدب العامي، ويمكنه أن يهيئ للأدب الفصيح كثيرا من الرموز والتجارب والأقنعة الّتي تقوي أواصر القربى بين الأدب ومتلقيه العربي. وقد حصل مثل ذلك مع شعراء يمنيين كالمقالح والبردوني وغيرهما.الأدب العامي أكثر جرأة على نقد الأوضاع السياسية والاجتمّاعية المعاشة
3 – ولأنّه – في واقع الأدب اليمني الذي ساد بين القرنين الرابع عشر والتاسع عشر تحت ما سمي بالشعر الحميني- قد مثل «الإضافة اليمنية الحقيقية للأدب العربي» كما يقول المقالح، وإذا ما تمّت فيه الدراسات الجادة فسيتأكد معنى أن يكون الإضافة الأدبيّة الحقيقية لليمن طوال عصرها الإسلامي.
4 – ولأنّه في الواقع المعاصر يغطي المساحة الّتي لا يغطيها الأدب الفصيح، وهي مساحة أكثر سعة وأكثر استجابة لمؤثرات الأدب، وإذا ما كان الأدب الفصيح في الواقع المعاصر – والشعر منه بالذات – أكثر انشغالاً بالقارئ الفرد الذي يستهدفه خطابه بغرض استثارته جمالياً، وهو انشغال صرفه عن جماهيرية الشعر المعتادة، فإن هيمنة وظيفة الإقناع على خطاب الأدب العامي واعتمّاده بلاغة المشافهة الّتي تستهدف التأثير المباشر والسريع في جمهور متلقيه، تجعله أكثر أثراً، وهو أثر يمكن أن يعيق مشروع التنمية المدنية للمجتمّع، إذا ما أدركنا أنه ينتهل من مرجعيات بعضها سحيق في القدم، مرجعيات تشرع لتقسيم المجتمّع إلى سلالات متمّايزة من حيث المواطنة ومتوارثة بالقوة لا يفلت منها الأبناء.
فالحرفي كالحلاق والخراز، أي الذي يرقع الوسائل الجلدية وضارب الطبل في المناسبات والأعراس والجزار، لا يتساوون مع غيرهم من أفراد القبيلة. ويظل ابن الخراز خرازاً شاء أم أبى، وهي أمور تنعكس حتى على مستوى الاستحقاق الوظيفي الرسمي الوطني. وليس لها من مبرر سوى ما توارثه القوم من ثقافة عتيقة في مقابل هشاشة التحول الحضاري المدني، وهي ثقافة يتغذّى منها كثير من منتج الأدب العامي بقدر ما يغذيها. وتأتي أهمية دراسته ونقده لضرورة تنمية منافعه وتنقيته من هذه الشوائب أو تحفيزه إلى اجتنابها وتوجيهه لخدمة التنمية.
5 – لأنّه يعبّر عن خصوصية الشخصية المحلية ضمن إطارها الوطني والقومي، أو أنه، في مستوى الثقافة القومية، يمثل الجانب الحيوي في مفهوم الشخصية القومية، لأنّه يجسد القيم الّتي تمّيز الذات القومية في سلوكها الحضاري وفي رؤيتها لذاتها وللآخر. ودراسته تسهم في الكشف عن هذه الخصوصية بغرض تطويرها وتوجيهها.
6- وأخيراً لأنّه، في الأقل، يمثل وثيقة تاريخية في ظل انعدام التاريخ الذي يهتمّ بتدوين ما جرى في الواقع الشعبي.
(العربي)
أدب العامية في اليمن والنقد الحديث
التصنيفات: أخبار وتقارير,ثقافــة