تحل هذه الأيام الذكرى السنوية المائة لوعد بلفور المشؤوم . ففي الثاني من نوفمبر 1917 أصدر أرثر جيمس بلفور (1848-1930) ، وزير خارجية بريطانيا (1916-1922) التعهد الذي عرف باسمه نيابة عن الحكومة البريطانية بإنشاء ((وطن قومي )) لليهود في فلسطين عقب الحرب العالمية الأولى ، وحققت بريطانيا بتحالفها مع الصهيونية العالمية والغرب الاستعماري الامبريالي هذا الوعد بإقامة الكيان الصهيوني على أرض فلسطين وتشريد شعبها وإقتلاعه من أرضه . إذا كان البعض من العرب قد برر إقامة الكيان الصهيوني بغفلة الشعوب العربية في حينه ، فإن الذكرى المئوية لوعد بلفور تحل ورؤساء أركان جيوش عربية (مصر والسعودية والأردن والإمارات ) يجتمعون مع نظيرهم الصهيوني في الولايات المتحدة الأمريكية لمناقشة الخطط والهموم المشتركة! . أما رئيسة وزراء بريطانيا تريزا ماي فأعلنت بصراحة أنها فخورة بما قامت به بلادها من خلال وعد بلفور واعتبرت إقامة الكيان الصهيوني إنجازا عظيما ، وأنها ستحتغي بهذه المناسبة . لم تكن رئيسة وزراء بريطانيا المهتمة بمبيعات السلاح لدول النفط الخليجية لتعلن فخرها بوعد بلفور لو عرفت أن دولة عربية واحدة من زبائن السلاح البريطاني ستحتج على هذا التصريح المتبجح وهي التي اضطرت لجعل وزير خارجيتها يتصل بقادة مملكة بني سعود ويعتذر لهم عن تصرف بسيط قام به مواطن بريطاني هو سام ألتون معترضا على وجود مجرم الحرب أحمد عسيري في بريطانيا، ولكنها تعرف أن الزبائن العرب الذين يهمها إرضائهم هم أكثر لهفة لملاقاة قادة الكيان الصهيوني والتقرب منهم وخدمة مشاريعهم . لم يكن للكيان الصهيوني أن يقام على حساب شعب فلسطين لو لم ينشأ تحالف مصيري بين الصهيونية العالمية و الامبريالية الأوروبية والأمريكية والرجعية العربية وما يزال هذا التحالف هو الضامن لوجود هذا الكيان .
قبل أكثر من ربع قرن قال المفكر العربي والأستاذ بجامعة صنعاء أبو بكر السقاف أن ما يظهر الآن من الهيمنة الأمريكية في الوطن العربي لم يكن غريبا ، فقد تعودنا أن ينتصر عندنا الاستعمار بإنتظام ، في حين ينهزم في كل بقاع الأرض . وقال السقاف في الحديث الذي أدلى به بتاريخ 19/8/1991 لمجلة ( قضايا العصر ) التي كان يصدرها الحزب الإشتراكي اليمني ونشرته في عدد مارس/1992 أن (( الاستعمار يعاني من هجوم يومي عليه ، بينما نحن بحكم التجزئة وضعف التضامن وحكم البنى التي نحن عليها تجعلنا قابلين للاستبداد والاستعمار )) . وأول عمل في سبيل التحرر من الاستبداد والاستعمار وتحرير بنية الفرد من التبعية هو برأي السقاف مقاومة أي شكل من أشكال التسوية المفروضة علينا من قبل الكيان الصهيوني ، مقاومة تصفية القضية الفلسطينية وتأبيد الإحتلال كما يجب إعادة إعتبار القضية الفلسطينية (( كقضية العرب الأولى،وإلا فلا تضامن بعد اليوم ، إذ سنتشرذم كأقطار وأقاليم لفترة طويلة من الزمن ، ونوجه ضربة قاضية إلى فكرة الوحدة العربية ، علينا أن نحول دون توجيه هذه الضربة بأي ثمن بالوقوف في وجه التسوية)) .
هكذا يتأكد لنا في الذكرى المئوية لوعد بلفور المشؤوم أن قضية فلسطين ليست شأنا خاصا بالفلسطينيين وأن مصير فلسطين يحدد مصير الأمة العربية وليس الحديث عن هذه القضية الخطيرة مجرد هواية خطابية لقوى المقاومة والممانعة . ولكم كان أبو بكر السقاف في حديثه المشار إليه محقا وصادقا عندما نبه إلى محاولات إخضاعنا للهيمنة الأمريكية وإلى خطورة استسلامنا لفكرة (( إن العالم محتكر من القطب الأمريكي البشع ،فهذا شيء قاتل أمريكا والخليج والسعودية واليمين العربي كله يجعلون من هذه القضية أمرا في مستوى البداهة ، بينما الواقع ينكر كل ذلك ، وهذه مصيدة يريدون إيقاعنا فيها لتأبيد تبعيتنا لأمريكا على وجه التحديد ، لاسيما أن نفط الخليج والسعودية والعراق يرهن لسنوات قادمة من خلال التجديد وتطوير البنى الأساسية والتعويضات الهائلة التي دفعت للشركات .. إضافة إلى إنخفاض قيمة البترول. فلابد من المزيد من النقد الفكري لبنى التبعية للدول النفطية ولليمين العربي على جميع الأصعدة )) .
في الذكرى المئوية للوعد المشؤوم وعد اللص البريطاني بمنح ما ليس له ، أرض فلسطين للص آخر هو الصهيونية العالمية ، فلترتفع الأصوات مجددة الرفض الكامل للتسوية مع الكيان الصهيوني لأنها تعني ضياع فلسطين ومطالبة الاستعمار البريطاني عن جريمته الكبرى التي تفتخر وتعتز بها تريزا ماي اليوم .
د.أحمد الصعدي: الوعد المشؤوم
التصنيفات: أقــلام