يرأس الأمين العام للأمم المتحدة أنتونيو غوتيريش الثلاثاء المقبل في نيويورك اجتماعا، على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة، مع جميع الأطراف الدولية والإقليمية المعنية بالملف الليبي، بُغية عرض استراتيجيا وخطة عمل لإنهاء الأزمة في هذا البلد، الذي تُمزقه حرب أهلية منذ ثلاث سنوات. لكن لا يُتوقع أن تتحلحل الأزمة بسبب شدة الاستقطاب بين الأطراف الدولية والاقليمية المُتداخلة في الصراع الليبي، وانسياق قوى داخلية عدة إلى مجاراة حلفائها الخارجيين، بعيدا عن الاستقلالية والحرص على الأمن القومي.
صحيحٌ أننا بإزاء أمين عام جديد للأمم المتحدة وموفد جديد للأمين العام بعد ثلاثة سابقين أخفقوا في التوصل إلى تسوية سلمية بين الفرقاء. كما أننا بإزاء وزراء خارجية غربيين لم تُواكب غالبيتهم هذه الأزمة في السنوات الماضية. إلا أن نتائج اجتماع نيويورك تُقرأ من نتائج الاجتماعات التي سبقته، وآخرها اجتماع لندن واجتماع برازافيل، إذ استضافت لندن الخميس اجتماعا وزاريا خاصا بليبيا، دعا له وزير الخارجية البريطاني بوريس جونسون، وشارك فيه وزير الخارجية الأمريكي تيلرسون ونظراؤهما في فرنسا وايطاليا وبريطانيا ومصر والإمارات. وعرض خلاله الموفد الجديد للأمم المتحدة إلى ليبيا غسان سلامة نتائج مشاوراته مع الأطراف الدولية والإقليمية واتصالاته بالفرقاء الليبيين. والأرجح أن الخطة التي سيُعلنها غوتيريش هي التي وصفها جونسون بـ«الأرضية الصلبة» في تصريحه يوم الخميس بعد اجتماع لندن، وهي تبدأ بالتصديق على الدستور تمهيدا لإجراء انتخابات عامة، بالإضافة لـ«وضع اتفاق أمني واتفاق سياسي بمشاركة جميع الأطراف» على ما قال.
فشل قبل أن يبدأ
قبل اجتماع لندن استضاف رئيس الكونغو الديمقراطية دنيس ساسو نغيسو، بوصفه رئيس اللجنة الأفريقية رفيعة المستوى حول ليبيا، اجتماعا في العاصمة الكونغولية ليبروفيل، إلا أن اللقاء فشل قبل أن يبدأ بسبب غياب الماريشال خليفة حفتر. ولم يكن نصيب لجنة التنسيق الرباعية بين الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي وجامعة الدول العربية والاتحاد الأوروبي، أفضل من مثيلتها الأفريقية. وبالرغم من التفاؤل الذي يُبديه الموفد الأممي الجديد سلامة، لا توجد مؤشرات حقيقية على الأرض تدُلُ على أن الليبيين سينعمون قريبا بالأمن والرخاء.
ثمة جملة مهمة في الخطاب الذي ألقاه سلامة في برازافيل تعكس أجواء الريبة، لا بل الضغينة، السائدة بين الفرقاء الليبيين، وكذلك مناخ الشقاق والنفاق المُخيِم على العلاقات بين اللاعبين الدوليين، إذ قال «علينا قبل كل شيء أن نعمل متحدين بروح من التنسيق غير التنافسي، وبنهج قائم على التكامل، وليس نهجاً أحادي الجانب، يحركنا هدفٌ أساسي وهو مساعدة أصدقائنا الليبيين على أن يتحدوا لا أن يكونوا أكثر انقساماً. نحن لا نريد أن نزيد من حالة عدم الوضوح لدى أصدقائنا الليبيين، حتى وإن كان بالنوايا الخالصة». هُنا يكمن بيت القصيد، فالتجاذب السائد بين القوى الدولية، وخاصة السباق الفرنسي الايطالي، هو من الأسباب الرئيسة التي تُعطل الحل. ومفتاحُ الحل يكمن في خطوات ضرورية لابد أن يقطعها مجلس النواب (مقره في طبرق- شرق) والمجلس الرئاسي لحكومة الوفاق (مقره في طرابلس- غرب) بشكل متزامن. فعلى البرلمان إدراج الاتفاق السياسي الذي توصل له الفرقاء الليبيون في منتجع الصخيرات، في الإعلان الدستوري مع ضرورة إقرار مشروع قانون للاستفتاء، وقانون آخر للانتخابات. أما المجلس الرئاسي فهو مُطالبٌ بأن يتفاهم مع أعضاء البرلمان على خريطة طريق لإنهاء الازدواجية المُعطلة للحل السياسي.
اتفاق لم يتكرس
خلال اجتماع في باريس في 25 تموز (يوليو) الماضي أعلن كلٌ من السراج وحفتر أنهما موافقان على وقف النار ونزع السلاح، وتأسيس جيش موحد بقيادة مدنية، وإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية في 2018، لكنهما لم يُوقعا على أي وثيقة في هذا المعنى. ولم تُبصر الساحة الليبية بعد ذلك الاجتماع أي تطور جديد، نحو إنهاء الاقتتال، من خلال إقرار حل سلمي للصراع. لا بل زادت المنافسة الفرنسية الإيطالية من خلال الجولة التي قام بها وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان في مطلع الشهر الجاري، على كل من طرابلس ومصراتة وبنغازي وطبرق، والتي أعقبتها زيارة وزير الداخلية الإيطالي ماركو مينيتي إلى بنغازي. ولا تقتصر نظرة الإيطاليين إلى مستقبل ليبيا على ثرواتها النفطية فحسب (وهم حاليا في مقدم شركائها) ولا على ما يمكن أن يحصدوه من صفقات إعادة الإعمار، وإنما أيضــا من زاويــة ملف الهجرة غير النظامية.
ويبدو أنهم مرتاحون لنتائج خطتهم الجديدة لاحتواء المهاجرين غير الشرعيين، بعد تنفيذ برنامج تدريبي لحرس السواحل الليبيين، ومنع القوارب المُحملة بالمهاجرين من مغادرة المياه الاقليمية الليبية من خلال عملية «يونافور» التي يوجد مقرها في روما. وبالإضافة لإرسال سفن عسكرية إيطالية للدعم، صار حُراس السواحل الليبيين يحتجزون المهاجرين في مراكز تجميع في ليبيا، ما جعل التدفق السابق على السواحل الجنوبية لإيطاليا يتراجع بشكل ملحوظ منذ أواسط تموز (يوليو) الماضي. وفي ظل ضعف الحكومة المركزية دخل الايطاليون في مفاوضات مع القبائل في جنوب ليبيا، ومنحوهم أموالا من أجل احتواء تدفقات المهاجرين عبر الحدود المشتركة مع النيجر وتشاد. كما تردد أيضا في وسائل إعلام عدة أنهم دفعوا أيضا لرؤساء شبكات تهريب المهاجرين من أجل التعويض لهم عن الموارد التي خسروها، وإن كانوا ضالعين في تجارة السلاح والمخدرات. وهذا يعني مزيدا من النفوذ للجماعات المارقة على حساب الحكومة المركزية، التي يُفترض أن تُطبق القانون على قادة تلك الشبكات وتُخضعهم للنظام.
إعلاء صوت الدولة
وحدهم نشطاء المجتمع المدني مازالوا يعملون على إعلاء صوت الدولة والمؤسسات على أصوات قوى التفكيك والفوضى، وخاصة النساء والشباب الذين أظهروا في الفترة الأخيرة انتعاشا نوعيا وحيوية غير مسبوقة، إن على صعيد المجالس البلدية، بالرغم من كونها مُعدمة (بعدما توقفت الحكومة عن إرسال الاعتمادات المالية إليها) أم الجمعيات والاتحادات. صحيح أن المجتمع المدني لم يحظ بفرص كافية لتصليب عوده، لاسيما في ظل النظام السابق، لكن ما يظهر في مختلف المدن، بما فيها البلدات النائية، من مبادرات عفوية حينا ومُهيكلة حينا آخر، يُنبئ باحتمال اكتساب المجتمع المدني وزنا أكبر في المستقبل. ولا ينبغي الاستهانة هنا بتفكير الشباب الليبي الذي رفضت قطاعات واسعة منه الخضوع للبنية القبلية، ولم تنضم إلى الميليشيات، بالرغم من الإغراءات المادية.
فأكثر من نصف السكان في ليبيا اليوم شبابٌ أقفلت الآفاق في وجوههم، فاستسهل بعضُهم الانضمام إلى ميليشيات تُؤمن لهم رواتب شهرية وتُشعرهم بدفء الانتماء. ومازال بعضهم الآخر يحمل الآثار النفسية والجسدية للسجن، لكنهم لا يجدون من يحتويهم ويمنحهم فرصة الاندماج في المجتمع. وسيُحرم 279 ألف طفل ليبي ممن هم في سن الدراسة، من الذهاب إلى المدارس هذه السنة، لأن مدارسهم مُدمَرة أو مهجورة، أو لأن أسرهم مُهجَرة. وبحسب وزارة التربية الليبية ومكتب تنسيق الشؤون الانسانية التابع للأمم المتحدة، بلغ عدد المدارس الخارجة عن الخدمة 558 مدرسة. وإذا لم يذهب هؤلاء اليوم إلى المدرسة، فإننا سنجد بعضهم غدا في مدرسة «داعش» وبعضهم الآخر ينضم إلى شبكات الجريمة.