عبدالكريم غانم
لوحة: شادي أبوسعدة
كنتُ عاكفاً على كتابة القصص، حين سارعتْ لتسرد لي حكايتها مع النمل. لم أتفاعل مع الموضوع، فلازِلت في خطواتي الأولى، وكيف أبدأ مشواري القصصي بالكتابة عن النمل! هناك ما هو أكبر وأهم، لولا أن صِحَّتها التي تُشرف على الانتهاء جعلتني أشفِق عليها من الرفض، جاءت عِبَاراتها مُحْرِقة وكأنها مُثقلة بتفاصيل أحداث حكاية ساخنة، أغلقتْ أمامي كل المنافذ التي حاولتُ الهروب منها.
كانت تتعهد مساكن النمل -القريبة- بالحبوب، على الرغم من حِرصها الشديد على الحَب. بدَت أكثر براءةً وهي تعترف بأنها تُغلِق الباب في وجوه الأخدام (*)، رغم حاجتهم لكِسرة الخبز، ومع أن لونهم الأَسْود شبيه بلون النمل، إلا أنها كانت تتشاءم من صوَرهم، عندما تقع عيناها على وجه خادم في الصباح! ربما لأن الأخدام لم يرد ذِكرهم في القرآن كما هو الحال مع النمل، أو لأن عادتها في تخزين الحُبوب للأيام السُود قريبة الشبه من حياة النمل.
سكبتْ حُبوب الذُرة الحمراء، العزيزة على قلبها، بالقرب من مساكن النمل، فاندلعتْ حِمم النمل وتحولتْ الطريق إلى خطوط متحركة من الحُبوب، سلكتْ النملة الرشيقة طريقاً آخر، انشغلتْ بتسلق شجرة السِدر، وزّعتْ وقتها بين فروع الشجرة!
أوشك النهار أن يطوي بياضه والعجوز تتبع سلوك النمل في العمل المتواصل. يتعثر بعض النمل في الارتقاء بالحَب إلى أعلى الكثيب الرملي، فيحزُّ في صدر العجوز وتكابد غُصّة الصعود المضني.
عرَّجتْ النملة الرشيقة قريباً من طريق الحُبوب، تجنَّبتْ ملامسة الحَب. فادَّعتْ العجوز أنَّ النملة صائمة كعادتها دائما،ً حين تتجنب ما يمكن أن يجْرح صيامها.
انجرف الكثيب الرملي فخرجتْ النملة بجحافلها وأخذت ترمم المداخل المحيطة بمساكنها. تغيَّبتْ النملة الرشيقة عن المشاركة في سَحب الحصى وإدخال الهشيم، أدركتْ العجوز، بفطنتها، أن النملة زاهدة في مُتع الحياة الدنيا. توقفتْ عن تزويد بيوت النمل بالحبوب. فبدأ المخزون يتناقص، واصلتْ النملة الرشيقة اعتكافها في الداخل!
كانت العجوز التي لا يخيب حدسها، قد أدركتْ أنَّ النملة الرشيقة تم اختيارها أميناً لما تبقى من مخازن النمل!
صارت النملة تخرج من وقتٍ إلى آخر، ازداد وزنها وظهرتْ السِمنة عليها! بدأ القحط يضرب الهضبة بكاملها، والعجوز تُمسِك عن دفع هِبتها القديمة. أصيبت النملة بالتخمة ومئات النمل حولها تتضور جوعاً وتزداد رشاقةً.
كانت الأيام تخبّئ الكثير لهذه النملة! تفاجأ الجميع بظهور ريشتين على ظهرها!
اصطفَّ النمل على جانبي الطريق وخرجتْ فرق أخرى تفسح لها المجال للعبور، مع أنها صارت قادرة على الطيران، تبخترتْ لبعض الوقت في مسالك النمل، حلَّقتْ عالياً، ابتعدتْ عن قَريتها.
عادت العجوز تتعهد النمل بالحبوب وتناغيها بكلمات:
(سَحْ سَحْ سَوده … جُودي جـَـوده)
(*) شريحة اجتماعية مازالت تقبع أسفل الهرم الطبقي في اليمن