صادق القاضي
ربما ليست مجرد مصادفة أن يتزامن اليوم العالمي لضحايا الإخفاء القسري، في الـ30 أغسطس من كل عام، مع ذكرى وفاة عبد الله البردوني، فهذا الشاعر العربي الكبير، والكاتب اليمني الشهير، هو ــ كما هو معروف أو كما سنرى ــ أحد أهم وأبرز ضحايا الإخفاء القسري في التاريخ العربي الحديث.
البردّوني (عبد الله صالح بن حسن الشحف) (1929 ــ 1999م) شخص غني عن التعريف، وطوال حياته الخصبة بالإنتاج الشعري كان غزير الكتابة في النقد والأدب والتاريخ والسياسة، شغوفاً بالمشاركة في الحراك الثقافي من خلال الكتابة في الصحف والمجلات وإعداد البرامج الإذاعية.
خلال ذلك:
– عمل كاتباً وضمن هيئة تحرير كثير من المجلات الأدبية الصادرة عن «إتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين» وسواه.
– من عام 1964م وحتى وفاته، كان معداً للبرنامج الثقافي الأسبوعي الشهير «مجلة الفكر والأدب» في إذاعة «صنعاء».
– بين 1969م و1975م.، عمل مشرفاً ثقافياً على مجلة الجيش.
– واظب لفترة طويلة على كتابة مقال أسبوعي في صحيفة «26 سبتمبر» بعنوان «قضايا الفكر والأدب».
– كما كان يكتب مقالاً أسبوعياً في صحيفة «الثورة» بعنوان «شؤون ثقافية».
من المؤسف أن معظم هذه الكتابات، على تميزها وأهميتها، لم تُجمع وتصدر في كتب مستقلة، سواء في حياة البردوني أو بعد وفاته.
بيد أن الأمر يصل حد الفاجعة حين يتعلق بأعمال مكتملة، شعرية وروائية ونقدية، كانت مخطوطة أو مطبوعة جاهزة للنشر، واختفت من منزل البردوني فجأة ليلة وفاته، وما تزال حتى الآن بعد كل هذه السنوات الطويلة مخفية عمداً، ولم تجد طريقها بعد إلى المطبعة والقارئ.
إثر وفاة الرجل، ذكر المقربون منه أنه ترك أعماله المخطوطة في صندوقه الخشبي الذي كان يحرص على تأمينه جيداً، ذكر هؤلاء عناوينها، كما وردت في مناسبات متفرقة عناوين أخرى، ومن كل ذلك نستخلص القائمة التالية:
1- «رحلة ابن من شاب قرناها» (ديوان شعر)
2- «العشق على مرافئ القمر» (ديوان شعر)
3- «أحذية السلاطين» (ديوان شعر)
4- «العم ميمون» (رواية)
5- «الجمهورية اليمنية» (فكر سياسي) معظم هذه الكتابات، على تميزها وأهميتها، لم تُجمع وتصدر في كتب مستقلة
6- «الجديد والمتجدد في الأدب اليمني» (أدب ونقد)
7- «أحياء في القبور» (تراجم)
8- «المستطرف الحديث» (مقالات)
9- السيرة الذاتية
يمكن التشكيك بصحة بعض هذه الأعمال، وافتراض أن للبردوني أعمالاً أخرى لم تذكر في هذه القائمة، وفي كل حال أشار البردّوني نفسه إلى بعض عناوين هذه المخطوطات في حياته، ونشر بعضها على شكل مقالات في بعض الصحف، كما وردت في تصريحات بعض المقربين منه، ومقابلاتهم التي لا تخلو من بعض الفجوات والتناقضات، ومنها جميعا يمكن وضع تصور عن هذه الأعمال الضائعة كالتالي:
-«العشق في مرافئ القمر»، و«ابن من شاب قرناها»: ديوانا شعر تضمّنا معظم نتاجه الشعري غير المطبوع، وكانا من ضمن ثلاث مخطوطات منسوخة ومجهزة للطبع، وقد تم منذ وفاة البردوني تسريب كثير من قصائدهما ونشرها في الملاحق الأدبية، بالذات ملحق «الثورة الثقافي»، بإشراف محمد القعود، والملحق الثقافي لصحيفة «اليمن اليوم» بإشراف الشاعر عبد المجيد التركي، ويتوجب على القائمين على الملحقَين توضيح مصدر تلك القصائد.
من جهة أخرى، من المؤكد أن هذين الديوانين أصبحا في حوزة وزارة الثقافة، على الأقل منذ 2012م، حيث صرح وزير الثقافة بذلك حينها خلال حفل بالمناسبة، تكفل فيه بطباعتهما، لكنهما لم يطبعا حتى الآن.
– «أحذية السلاطين»: ديوان شعري يُقال أن البردّوني رهنه لطبيب أو رجل أعمال سوري من أجل دفع تكاليف علاج زوجته الأولى التي توفيت لاحقاً، لم تذكر المصادر أيّ معلومات مفيدة عن الرجل السوري، كما قيل إنه أعاد الديوان إلى البردّوني، وأياً كان الأمر إن كان هذا الديوان حقيقياً فما زال مخفياً حتى الآن.
– «العم ميمون»: رواية يتيمة، يبدو أنها كانت مكتملة وجاهزة للنشر منذ عام 1992م، قال عنها البردّوني في مقابلة نُشرت في العدد السابع الصادر بتاريخ 2 سبتمبر 1998م من صحيفة «الثقافية»: «مراجعة وجيدة، وعندما تجد مخرجاً ستخرج إلى الناس؛ لأنها تحتاج إلى فلوس أكثر مما ينبغي»!
– «الجمهورية اليمنية»: كتاب في الفكر والتاريخ السياسي الحديث في اليمن، ويبدو امتداداً لكتابه الشهير «اليمن الجمهوري»، ويفترض أنه يضم كتابات منشورة في بعض الدوريات، عمل البردّوني على تنقيحها، وإعدادها للطبع.
– «أحياء في القبور»: كان بعنوان «رجال في القبور»، ثم عاد البردّوني واستحسن له هذا الاسم، وهو كتاب في التراجم يتناول بعضاً من أعلام الأدب والفكر في اليمن، ولم تُنشر مواده في أيّ صحيفة أو دورية.
– «المستطرف الحديث»: ويضم مقالات أسبوعية كانت تنشرها صحيفة «الوحدة» تحت هذا العنوان العام، وتعالج قضايا الواقع الراهن من زاوية ثقافية.
– «الجديد والمتجدد في الأدب اليمني»: كان هذا المخطوط مكوناً من نحو ألفي صفحة، ويبدو أن البردّوني كان يعمل عليه منذ ثمانينيات القرن الماضي، ويتضمن دراسات نقدية شاملة لنصوص الحداثة الشعرية في اليمن.
المفارقة اللافتة هي أن هذه الأعمال المخفية كان يمكن حمايتها بطباعتها في حياة مؤلفها، لكن بعضها مرت عليه سنوات بل عقود دون أن يصل إلى المطبعة، ولأسباب وعراقيل مختلفة، تلقي المسؤولية بدرجات متفاوتة على أطراف عديدة، هي بغير ترتيب:
– البردّوني نفسه: وفي الواقع يمكن ملاحظة أن البردّوني لم يكن متحمساً كثيراً لطباعة بعض مؤلفاته، فيما حالت حالته المادية المتواضعة دون طباعة بعضها الآخر.
– الدولة: لم يكن البردوني على علاقة جيدة بالسلطات المتتابعة، وانعكس ذلك على حياته المادية، وبالتالي قدرته على الطباعة والنشر في حياته، وفي اليوم التالي لوفاته ذكر بعضهم، منهم فتحية الجرافي، زوجة البردوني، أن مسئولين كبار استلموا الأعمال المخطوطة للفقيد، لكن لم يؤكد أحد منهم ذلك، ويرى بعضهم أن الدولة تتحفظ عن طبع تلك الأعمال الشعرية لوجود قصائد بمضامين سياسية ما تزال حساسة، كقضية الجنوب على سبيل المثال.
– أقرباء البردوني: من الشائع عموماً سماع أن مخطوطات البردوني ما زالت في حوزة فتحية الجرافية، زوجة الشاعر، أو أن بعض أبناء أخيه يعرقلون طباعة نتاج البردوني لدوافع تتعلق بالعوائد المالية لحقوق النشر.
– الأصدقاء المقربون الذين كان البردوني يستعين بهم في إملاء ونسخ أعماله والجوانب الفنية الأخرى، مثل عبد الإله القدسي ومحمد الشاطبي، وهؤلاء ما زالوا أحياء ويمتلكون نسخاً من أعمال البردوني.
كل هؤلاء على المحك هنا كشهود أو كمتهمين في هذه المصادرة التعسفية، والإخفاء القسري لتراث البردّوني غير المطبوع، بجانب آخرين ــ أعرف بعضهم ــ حصلوا بطرق مختلفة على بعض من أعمال البردوني المخفية، ومتحفظين عليها بشدة!
ليلة وفاة البردّوني صرح الشاطبي: «كل الأعمال الخاصة بالراحل موثقة ومحفوظة لدى مكتبة الكونجرس»! لكن عبد الإله القدسي، من جهته، نفى صحة هذا التصريح، وقام بتأويل مقاصد صديقه الشاطبي منه، مؤكداَ أن البردّوني توفي ومفتاح صندوقه مُثبت على خصره، وأن «الصندوق قد تم فتحه وإخلاؤه من جميع البحوث والكتب غير المنشورة، ومصادرة مخطوطاته بعد ساعة من وفاته»!
كان يلقي بالمسؤولية على فتحية الجرافي، التي بدورها قالت إنها سلمت المخطوطات إلى «ذوي الشأن في الدولة»! لكن القدسي شكك أيضاً بإفادتها، مؤكداً أنه «على ثقة بأنها (المخطوطات) لا زالت في صندوق البردّوني، الذي انتقل المفتاح الخاص به بعد موته إلى زوجته الثانية هذه، والتي امتنعت بدورها عن تسليم الصندوق»!
المؤكد عموماً أن للبردوني أعمالاً مخطوطة، مفقودة أو مخفية، اختفت يوم وفاته في ملابسات غامضة تسببت بخسارة فادحة للشعر والأدب والثقافة اليمنية المعاصرة، ومن المثير للشعور بالمرارة أن هذه الكتب المخطوطة ما تزال رغم كل المطالبات ومناشدات الجهات ذات العلاقة مخفية قسرياً منذ عام 1999م.
تاريخ العالم، العربي بالخصوص، مثخنٌ بالوأد والاغتيالات والإخفاءات القسرية، لكن أخطر أشكال الوأد، وأفدح أنواع الاغتيال والإخفاء القسري، تلك التي تتعلق بالكتب والنصوص، حيث وأد الكلمة وأد للحقيقة، واغتيال الكتب اغتيال لعقل وذاكرة الأمة، وحسها الفني والجمالي، ووعيها بالماضي والحاضر والمستقبل.
من المثير للخجل أن هذه الممارسات الفاضحة ما تزال تحدث في اليمن في مطلع الألفية الثالثة، ومع قصائد وأعمال أحد أشهر معالم الشعر والأدب والثقافة اليمنية المعاصرة، وأحد أعظم شعراء القصيدة العربية العمودية في القرن العشرين.
إنها قضية تتعلق بنتاجات عقلية يمنية جبارة، على أصعدة الفن والأدب والتاريخ والسياسة والنقد. قضية تتعلق بتراث إنساني مهم، وثروة قومية ويمنية نفيسة، لا يجوز التعامل مع اختفائها بصمت أو لا مبالاة، وسواء كانت الدولة أو الورثة أو غيرهم هم المسؤولون عن هذا الإخفاء القسري، فهو يستحق منا جميعاً بعض الاهتمام والتضامن الثقافي والإنساني والسياسي، المبدد ربما بلا قضية، وبلا جدوى، هنا وهناك!