هيثم الزبيدي*
تفكيك المجتمعات العربية وإعادة تشكيلها على صورة الإسلام السياسي كان يمر من خلال وضعية المرأة في هذه المجتمعات. حملة الخداع التي تعرضت لها كانت استثنائية.
محرج أن تكتب عن المرأة في عالمنا العربي. مصدر الإحراج لا ينحصر في الوضع المزري الذي تعيشه اليوم، فحال الرجال ليس بأفضل منها كثيرا، ولكنه يشمل أيضا حالة التيه التي تعيشها المجتمعات في تحديد أولويات علاقة المرأة بكل شيء تقريبا.
النهضة النسوية كانت ملموسة بشكل كبير في الخمسينات والستينات والسبعينات من القرن الماضي. كانت هذه النهضة جزءا أصيلا من عملية تكوين الوعي والدور للمجتمعات العربية نفسها في مرحلة فاصلة بين ما ورثته هذه المجتمعات من عصر التأثير الغربي/الاستعمار وما بدأت في استكشافه من تأثيرات الفكر اليساري. هو عصر ذهبي مقارنة بما تبعه من نكبات وكوارث. كانت المجتمعات العربية تحتفظ ببقايا ليبرالية التأثير الغربي وتستكشف تقدمية اليسار، فصبّ كلّ هذا في صالح المرأة.
لم يكن الخروج من المنزل بالنسبة إلى المرأة غاية عبثية بل إثبات حضور في التعليم والعمل وشيء من السياسة. بلغ التطور في وضع المرأة أن بلدا مثل العراق صار بوسعه أن يرسل كل رجاله تقريبا إلى جبهات الحرب مع إيران، في حين تدير المرأة الحياة الإدارية للدولة العراقية وتسدّ كل الشواغر في الكثير من المهن التي كانت حصرا على الرجل. كانت العراقية تفعل هذا وهي مثقلة بمآسي الحرب من شهداء وضحايا ورجال تركوا البلاد فرارا من الموت أو من ضياع سنوات العمر. ما كانت العراقية بقادرة على أخذ هذا الدور لولا العقود التي سبقت الثمانينات والتي كانت فيها المرأة تعزز من حضورها العملي وتأخذ فرصتها الكاملة في التعليم.
حكاية المرأة العراقية في الثمانينات نجد أمثلة كثيرة مشابهة لها في منطقتنا. لكن الثمانينات أيضا جاءت بالتغيير الكاسح الذي أوصلنا إلى الحال البائس المعيش اليوم: صعود تأثير الإسلام السياسي بأوجهه المتعددة، الإخوانية والسلفية والخمينية.
تفكيك المجتمعات العربية وإعادة تشكيلها على صورة الإسلام السياسي كان يمر من خلال وضعية المرأة في هذه المجتمعات. حملة الخداع التي تعرضت لها كانت استثنائية. فكما كانت المرأة التقدمية تعلن عن نفسها برمي العباءة، صارت المرأة الإسلامية تعلن عن نفسها بتبنّي فكرة الحجاب وارتدائه. كان الحجاب هو نقطة الانطلاق لتغيير الوعي، وعي المجتمع بدور المرأة، ووعي المرأة بدورها. ما عادت المرأة جزءا بنّاء من المجتمع، بل أصبحت محددة الدور سلفا بالأمّ التي ترعى الأولاد في المنزل.
لم يتردّد أحد كبار قادة الإخوان المسلمين من الذهاب بعيدا في حملة سلب الدور من المرأة بتشبيهها بالثريا التي تضيء بيتها ونقطة على السطر. هي، وفق هذا التوصيف، ماكنة تفريخ منزلية وحسب. ليست كائنا كامل الحقوق، يريد أن يثبت الذات وليس فقط يحقق الرغبات والشهوات أو أن يكون محصورا في مهمة ميكانيكية محددة سلفا.
حلّ مسألة السيطرة على المجتمعات صار أسهل. المرأة صارت، بوعي أو من دونه، هي الحارس الأمين على مشروع التغيير الاجتماعي، وهي التي تشرف على تربية أبناء سيكونون موالين لمشروع الإسلام السياسي منذ البداية. بحجة الورع الديني، صرنا نشهد ما نشهده اليوم من كوارث تتمّ باسم الدين ليس أقلها الإرهاب، ولكن في معظمها تقوم على فكرة الاستلاب الفكري والروحي للإنسان ووضعه في قالب واحد لا خروج عنه.
مصدر الإحراج في كل هذا هو السير ضد عجلة التاريخ والتطور التي تدور من حولنا. والإحراج الأكبر هو أن تكون المرأة العربية رائدة اضطهاد نفسها والمسؤولة بشكل أو بآخر عن تضييع دورها بعد أن كانت مواكبة للتغييرات التي تحدث في العالم، بل وسبّاقة بالمقارنة مع المرأة في أفريقيا وشبه القارة الهندية والكثير من دول شرق آسيا.
تراجع دور المرأة فتراجع دور الرجل. وما نشهده من عنف وانهيار لمنظومة الدولة في كل أرجاء العالم العربي هو تعبير عن هذا التراجع وتصوير مشهدي مفزع لحقيقة عجز المجتمعات عن العثور على تفسير لسبب وجودها خارج مسمّيات الفرائض والشعائر ومشاهد العنف والدمار والتنكر للوطنية والعلاقات الإنسانية السوية التي عملت البشرية جاهدة على إرسائها.
لا نحسد علماء الاجتماع على ورطتهم اليوم في عدم القدرة على تفسير ما حدث في عالمنا. فكل المعطيات الأولية من فكر وثروات كانت تشير إلى النهضة والتقدم. لكن حالة الانتكاسة الاجتماعية، من قبل أن تكون سياسية، قادتنا إلى ما نحن عليه الآن. لا شك أن نقطة البداية في محاولة العثور على التفسير ستكون المرأة.
*كاتب من العراق مقيم في لندن