ماجد كيالي
هل يمكن الحديث راهنا عن بداية أفول وتراجع تيارات الإسلام السياسي في العالم العربي الإسلامي؟ وهل أن المستجدات السياسية العربية والإقليمية والدولية بما أنتجته من تسريع في نسق محاربة الإرهاب وبما نحتته من مفردات جديدة في سياق محاصرة وتطويق التيارات الإسلامية، كافية للإقرار- بيقين- بأننا نشهد لحظات تراجع تيارات طالما مثّلت صداعا مزمنا لمختلف دول المنطقة؟ وهل أن الأفول سيكون شاملا لكل تيارات الإسلام السياسي أم سيكون متفاوتا حسب درجة الضلوع في الإرهاب أو حسب الانتماء المذهبي؟
الحديث يدور هنا عن تيارات الإسلام السياسي، لا عن الإسلام كدين، وهذا ما يجب تمييزه رغم محاولة معظم تلك التيارات التماهي بينها وبين الدين، وإظهار أن أي نقاش في مواقفها كأنه نقاش في الإسلام ذاته.
وفي الواقع فإن هذه نظرة قاصرة وضيقة ومتطرفة، وتؤدي إلى الإضرار بالإسلام كما بالتيارات الإسلامية ذاتها، أي بشرعيتها وبقدرتها على التحوّل إلى كيانات سياسية؛ وهذه ملاحظة أولى في التعريف بأسباب أفول هذه التيارات على نحو ما بتنا نشهده في العالم العربي. الملاحظة الثانية، التي ينبغي إدراكها، مفادها أن أفول التيارات السياسية الإسلامية لم يحصل بسبب من صعود التيارات العلمانية أو القومية أو اليسارية أو الليبرالية في العالم العربي، أو خارجه، وإنما هو حصل بسبب تخلف تيارات الإسلام السياسي عن إدراك الواقع، وعن معاندتها التكيّف مع العصر والعالم.
الملاحظة الثالثة، تنبثق من كون تلك التيارات السياسية الإسلامية اختلفت وتنافست وتنازعت، بل وفي بعض الأماكن تقاتلت، فيما بينها، أي إنها أضعفت نفسها بنفسها، مع علمنا أن الحديث عن إسلام سياسي يلحظ وجود تيارات مختلفة فيه، فثمة تيارات معدلة ومتطرفة، جهادية ودعوية، سلفية وصوفية.
الملاحظة الرابعة، تفيد التجربة بأن الإسلام السياسي المحسوب على جماعة “السنّة”، وللأسباب التي ذكرناها سابقا، لم يستطع أن يثبت ذاته لأن الجماعة التي ادعى تمثيلها، أو حصر تمثيلها به، تستعصي على التحول إلى طائفة، أولا، لإدراكها أنها أكثرية. ثانياً، لأن تلك الجماعة غير معنية بإثبات أو إدراك، ذاتها كطائفة ففي وعيها أنها تمثل الإسلام وتمثل الأمة أو الشعب. وثالثا، لأن “السنة” ليس لديهم تراتبية دينية كتلك التي لـ”الشيعة”، لذا فهم ليس لديهم زعيم ولا حزب ولا دولة مركز، وهذا ما يفسر أن الإسلام السني ليس له مرجع مركز كالمرشد الأعلى آية الله خامنئي مثلاً، ولا دولة مركز كإيران، ولا حزب مركز كحزب الله. ورابعاً، لأن المحسوبين على “السنة” هم ذاتهم الذين شكلوا القاعدة الشعبية للتيارات القومية والعلمانية واليسارية والليبرالية.
خامساً، واضح أن تخلف العمل السياسي، والكيانات السياسية، في العالم العربي يشمل أيضاً تيارات الإسلام السياسي، لا سيما وأننا نتحدث عن بيئة تفتقد للحريات الفردية والعامة وللمشاركة السياسية وحقوق المواطنة والديمقراطية وتداول السلطة.
سادساً، الحديث عن أفول تيارات الإسلام السياسي يشمل الإسلام السياسي الشيعي، في إيران ولبنان، حيث يسيطر في هذين البلدين بواسطة القوة وحيازة الموارد على الضد من إرادة أغلبية الإيرانيين أو اللبنانيين.
ويمكن القول إن تجربة تيارات الإسلام السياسي، في الحكم والمعارضة، أخفقت وآلت إلى أفول، على ما نشهد، مثلا في مصر وسوريا وإيران ولبنان، فيما هي تحاول أن تثبت ذاتها في تونس والمغرب وتركيا، عبر محاولاتها الصائبة أحيانا والمتعثرة أحيانا مع التغيرات الحاصلة في مجتمعاتها ومع التطورات الحاصلة في العالم.
بيد أن التجربة في سوريا بيّنت أن جماعة الإخوان المسلمين السوريين أضحت في وضع صعب وحرج، إذ أكدت التطورات هامشية هذه الجماعة في المجتمع، وعدم قدرتها على لعب دور فاعل يتناسب والمكانة المفترضة بها، هذا من ناحية.
ومن ناحية ثانية فإن صعود الإسلام السياسي المتطرف أضعف من وجودها، بل أدى إلى زعزعة شرعيتها ووضع علامات شك حول صدقيتها، سيما أن جماعة الإخوان لم تقم بالتمايز عن الجماعات المتطرفة والجهادية مكتفية بنقد بعض مواقفها وممارساتها، من دون أن تصل إلى الحد المطلوب المتعلق بنزع شرعية هذه الجماعات وتفنيد أطروحاتها المتطرفة المتعلقة بالحاكمية والجهاد وتطبيق الحدود والخلافة.
وفوق هذين العاملين فإن هذه الجماعة لم تستطع الثبات على المبادئ التي حاولت تبنيها، ويأتي في مقدمة ذلك تجاهلها وثيقة “العهد والميثاق”، التي أصدرتها في مارس 2012، ووعدت فيها بالعمل على “إقامة دولة مدنية حديثة ذات دستور مدني، دولة ديمقراطية تعددية تداولية، دولة مواطنة ومساواة، تلتزم بحقوق الإنسان، وتقوم على الحوار والمشاركة، لا الاستئثار والإقصاء والمغالبة”.
هذه هي دورة الزمن، ففي أواخر ستينات القرن الماضي، أفلت التيارات القومية خاصة مع هزيمة يونيو 1967، وفي التسعينات، وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي السابق، والتطورات العلمية والتكنولوجية والاقتصادية، انحسرت التيارات اليسارية بعد أن باتت تستند إلى مجرد أيديولوجيا مفوتة، وفي ذلك فإن “الربيع العربي” هو على ما يبدو لحظة أفول تيارات الإسلام السياسي بعد أن اعتقد البعض، عن تسرع، أنه ربيع إسلامي، ولعل هذا الاعتقاد هو الذي ولد نقيضه.