نشوان زيد علي عنتر
لم تتوقف أمنة الرازحي منذ بلوغها سن السابعة و الثلاثين عن زيارتها لتلة حسين على سفح جبل باقم العاري أعلى جبل في صعدة و يقع في قلب جبال عسير الممتدة على طول الحدود اليمنية – السعودية التي فرقت بين أبناء شعبنا الواحد منذ أعوام 1934م و 1974م و 2000م ، بما أنها قريبة من الحدود و يستطيع أي امرئ اعتلاء قمتها و رؤية الجهة الأخرى منها مما دفعها إلى الاستمرار في زيارته يوميا من منتصف اليوم بعد أن تقوم بواجباتها في المنزل و الحقل حاملة على أكتافها طناجرا من الألمنيوم المطروق اليدوية الصنع تتفاوت أحجامها ما بين الكبير و المتوسط متحملة مشاق الصعود إليه و برودته القساوسة لتضعهم بالتساوي عند تلة حسين التي سميت على اسم ابنها ذي الـ 32 ربيعا المهاجر إلى السعودية منذ ثلاث سنوات بعدما دخلها من قبل جنديا في الجيش النظامي فترة الاشتباكات الحدودية عام 1976م ، تبقى هناك دون رفيق أو ونيس يسري خاطرها و يسلي وحدتها تتأمل الجهة الأخرى من الحدود على بعد 1200 مترا فوق مستوى سطح البحر منتظرة عودته بفارغ الصبر ، فتمتلئ الطناجر الخمسة بمياه المطر التي تهطل عليها فجأة من على سفح هذا الجبل المقفر لدلالة على رجوعه حسب اعتقادات سكان المنطقة ، أنجبته و هي في ال 18 من عمرها و تحملت جميع النكبات و النوائب التي حلت بها طوال حياتها منذ إجبارها على الزواج و هي طفلة من مغتصبها الشيخ مانع مجبل ، فكان فرحتها الأولى و الوحيدة و دفعها إلى بذل الغالي و النفيس منذ تخرجه في الثانوية حتى التحاقه في صفوف الجيش حيث لم يلتحق بالجامعة بسبب رفض والده الشديد لذلك بحجة أنها وكر للفساد الأخلاقي كما يزعم و هو الشيخ الوقور الذي اغتصبها و غيرها من فتيات القبيلة ، لكنه يخاف أن تعلم ولده هناك تغيرت عقيلته التقليدية بسرعة كما حدث أثناء دراسته في مدرسة المنار الحكومية .ظلت أمنة تفكر في ذلك الماضي الأليم الذي تجرعت مآسيه لسنوات طوال لم يحررها منه سوى وفاة رفيق دربها قتيلا في إحدى المناوشات القبلية التي حدثت في سوق الطلح قبل عامين و لم تظفر من تركته التي جثم عليها أولاده من زوجاته السابقات سوى بثلاث أراض صغيرة بالكاد ريعهن يسد الرمق ، لكنها لم تبال فريثما يعود ولدها محملا بما ادخره من مال في ارض المهجر سوف يحولهن إلى أراض خصبة و تعود بعائد مالي أضخم من السابق و سيتزوج من الفتاة التي يحبها بملء إرادته …….. و غيرها من الأمنيات الجياشة التي شغلت نفسها بها ريثما يعود ، و لكي يتحقق مأربها نذرت لنفسها في حال ما امتلأت طناجرها بمياه المطر جميعا فسترقص لله فرحا و حمدا على سلامته و عودته حسب العادات و التقاليد ، و لم تنقض ثوان حتى سمعت هزيم الرعد و دوي البرق أمامها لينهمر عليها سيل جرار من الأمطار لم تعهدها و جبل باقم من قبل ، فسرعان ما امتلأت القدور فرقصت رقصتها الشعبية التي تشتهر بها نساء رازح و تغنى تحت المطر أهازيج منطقتها المتعلقة بقدوم العائدين من الغربة متذكرة مسيرة حياتها المؤلمة و الطويلة التي تجرعتها بمرارة العلقم من اجل وحيدها و التي أدركت الآن انه قد عاد اليوم لتسرع بالنزول من تلة حسين بأعلى الجبل منادية بفرحة غامرة باسمه …… حسين …… حسين ……… ولدي حسين …… قبل أن يتبدل وجهها و يمتقع لونه من شدة المفاجأة و الحزن حيث رأت ابنها قد عاد فعلا و لكن عاد ميتا و محملا على أكتاف شباب المنطقة ، فلقد قتل على يد رجال الأمن السعوديين في الدمام حيث يعمل سائقا للأجرة دون تهمة أو بالأصح بتهمة أن إقامته غير قانونية في البلد و هذا غير صحيح كما ذكر زملاؤه الذين رافقوا جثمانه لها التي لم تصدق ما حدث بالرغم من أنها تعرف شدة عدائه للسعوديين و ما ارتكبوه بحق بلاده من جرائم و انتهاكات لا حصر لها ، و لم تستطع الكلام من هول الصدمة قبل أن تندفع صرخة مرعبة من فيها صاروخا مكبوتا من المشاعر الدفينة تخنقها الدموع الجارفة تحرق عينيها من شدة الألم فتجثم على جثة أملها و غدها القادم الذي تبخر أمامها خلال دقائق معدودات بواسطة رصاصات نحاسية اللون من أناس لا يعترفون بالإنسان و لاسيما الغريب عن تصوراتهم ، ظلت جاثمة على جثمانه دون أن تنفك عنه أمام شباب المنطقة الذين تركوها على هذه الحالة التي يرثى لها و هم المعتادون على هكذا مواقف حيث يعرفون أن من يخترق أسوار الحدود إلى الضفة الأخرى منها حيا سيعود إليهم ميتا في اغلب الأحيان ..