حسن عبد الوارث
تنخفض درجة الحرارة إلى ما تحت الصفر في صنعاء ومناطق عدة في شمال اليمن هذه الأيام، وإذا كان اليمنيون قد اعتادوا هذا الطقس في كل شتاء وخريف، فإنهم لم يعرفوه في الساحة الثقافية، إلاَّ في العامين الأخيرين. فقد أتت الحرب بالصقيع على كل وجوه الحياة في المجتمع اليمني.. غير أن هذا النوع من الصقيع كان أكثر قسوة لدى قطاع واسع من المثقفين والمبدعين، الذين اضطر بعضهم إلى الهجرة، جرّاء تداعيات هذه الحالة، فيما اعتكف آخرون في منازلهم.. غير أن طرفاً ثالثاً لم يلجأ إلى نافذة الهجرة أو ينطوي في قوقعة الاعتكاف، بل راح يتمثَّل الرسالة المُثلى التي حملتها بضعة أبيات لشاعر اليمن الكبير الدكتور عبد العزيز المقالح:
«سنظلُّ نحفرُ في الجدار/ إمَّا فتحنا ثغرةً للنور../ أو متنا على وجه الجدار».
وبالفعل استطاع هؤلاء أن يحفروا، حتى فتحوا ثغرة للنور المعرفي في وجه جدار الوحشة والعزلة الذي أقامته سنوات الأزمة السياسية ثم الحرب الطاحنة في الوعي والوجدان قبل الطبيعة والمجتمع.
لم تكن ثغرة النور هذه سوى «مؤسسة بيسمنت الثقافية»، التي تعد اليوم الشعاع الدافئ الوحيد في صقيع المشهد الثقافي اليمني، بعد أن تولَّدت من فكرة أضاءت في رؤوس ثُلَّة من الأصدقاء المثقفين والمبدعين، فإذا بها تتنامى حتى أصبحت مؤسسة ترعى الفعل الثقافي، وتنتج بعض تجلياته، بل صارت اليوم حالة مزدهرة في ذاتها المحدودة، فيما يأمل القائمون عليها، ومعهم سائر المثقفين والمبدعين اليمنيين، أن تتسع دائرتها وتتعدد نماذجها حتى تغدو ظاهرة بحجم الوطن وأحلام مثقفيه ومبدعيه.
من القبو إلى الساحة
ظهرت فكرة مؤسسة »بيسمنت« إلى النور في إبريل /نيسان 2009 في أذهان مجموعة صغيرة يقودها المهندس والأديب والفنان سبأ الصُليحي، وكلهم يعملون في مهنة الهندسة المعمارية، ويقومون بتصميم مشروعاتهم الهندسية في «قبو» بإحدى البنايات (مفردة Basementتعني القبو).
ولأن الولع بالإبداع والاهتمام الجم بالثقافة هو الجامع المشترك بين هؤلاء الأصدقاء، فقد كانت الفكرة بذرة لمؤسسة ثقافية راعية للإبداع ومنتجة للثقافة. وبرغم ولادتها رسمياً في ديسمبر/كانون الأول 2012، إلاَّ أن نشاطها ظل محدوداً في بادئ الأمر، قبل أن يعرف به، ويتفاعل معه الكثيرون من أهل الثقافة والإبداع بعد أن صارت علامة مسجلة في الساحة الثقافية في الأعوام القليلة الماضية.
يختزل مؤسسو «بيسمنت» رؤيتهم للرسالة الثقافية والتنويرية، التي أرادوا لمؤسستهم أن تضطلع بها في هذه العبارة: «لو أعطيتك برتقالة وأخذت منك تفاحة، أكون قد خسرت البرتقالة حتماً، لكن لو أعطيتك فكرتي وأخذت فكرتك، لأصبح عند كلٍّ منا فكرتان» أي المعرفة تزيد بالتبادل المعرفي وتلاقح الأفكار ولا تنقص أبداً.
تحدّثتْ إليَّ شيماء الأهدل، وهي مثقفة ومبدعة شابة تتولى الإدارة التنفيذية للمؤسسة، فأشارت إلى أن بيسمنت مؤسسة غير ربحية، لا تتلقى دعماً من أية مؤسسة رسمية، ومواردها المالية مصدرها منظمات دولية مانحة تعمل في اليمن. وهي تهدف إلى الإسهام في نشر قيم التنوع والتسامح وقبول الآخر، بما يسهم في خلق مفاهيم جديدة، تقاوم رواسب الماضي والوعي التقليدي الذي يسود المجتمع اليمني، كما تسعى إلى مناهضة التطرف والغلو، والسعي إلى لمّ شمل الأطياف الفكرية والاعتقادية تحت مظلة ثقافية تنويرية تمثّل بوتقةً للتوحُّد على قاعدة التنوُّع.
تدور جميع أنشطة المؤسسة وفعالياتها في الفلك الثقافي بمختلف مداراته وتنويعاته. ولا تحصر المؤسسة مفهوم الثقافة في مجمل نشاطها بالآداب والفنون فحسب، بل يمتد إلى جميع المعارف والمهارات والخبرات الاحترافية. وهذه الفعاليات والأنشطة تتوزع على:
«منتدى التبادل المعرفي» الذي يقيم ندوات ومحاضرات وحلقات نقاش أسبوعية منتظمة في شتى حقول المعرفة الإنسانية، تُصاحبها عروض تشكيلية وموسيقية.
ورشة الكتابة «كُرّاس» التي تسهم في تنمية موهبة الكتابة لدى الشبان من الجنسين.
«سينما لوميير» وهو برنامج شهري لدعم صنّاع الأفلام من خلال عرض أفكارهم وتجاربهم وإغنائها بالنقاش ورأي الخبراء ورفع مستوى الحس النقدي والتعاطي الجمالي مع الفن السابع لدى الجمهور. وهناك الحلقة النقاشية «فضاءات» التي تُشكّل بوتقة لجميع الأفكار والآراء الحرة والمنفتحة تجاه مختلف القضايا والظواهر والأحداث، لا سيما التي تهم فئة الشباب في المجتمع.
تقول الأهدل: «لدي مشروعات نشر وإنتاج في مختلف فروع المعرفة والخبرة الثقافية، لكن ضيق ذات اليد تحول دون إتمامها بالصورة والفترة اللازمتين. غير أننا برغم ذلك أنجزنا عدة أعمال من بينها: كُرّاس يضم بين دفّتيه مخرجات ورشة الكتابة، إلى جانب كتاب عن الصحافة الاستقصائية يضم تجارب ناجحة في هذا الحقل، وثلاثة برامج تلفزيونية (إخراجاً وإنتاجاً).. عدا مجلة «بيسمنت» الشهرية التي تُعنى بمختلف وجوه النشاط الثقافي والمعرفي، إضافة إلى عدد غير قليل من الأعمال التشكيلية والموسيقية والصور الفوتوغرافية التي صدرت ضمن سلسلة شظايا».