نشوان زيد عنتر
ظل يتشمم قميصها الوردي و يحتضنه بكل جوانحه كل صباح قبيل مغادرته العمل و وضع ولديه التوأم الرضيعين اليتيمين عند والدته في الشقة المجاورة دون أن تفارق الدموع عينيه الزرقاوين رغم محاولاته المستميتة إختفاءها عن أنظار الجميع حيث لم يستطع نسيانها بعدما فارقته في مستشفى ابن سينا الحكومي بأبين الى رحاب ربها الكريم تاركة وراءها طفلين رائعين فاق جمالهما البدر في ليلة تمامه دون ان يستضيء بنورهما من أخرجهم الى الوجود حيث لم يبال بهما أو حتى يزرهما في الحضانة ، فقد ظل طوال اليوم متشبثا بجسدها المسجى أمامه في غرفة الموتى ذارفا عليها انهارا من دموع حزنه المكتوم دون ان تفارقها الابتسامة المرسومة على شفتيها الورديتين الباهتتين من حتى قبل العملية الانتحارية التي أجريت لها في غرفة العمليات المتواضعة بتجهيزاتها العظيمة بأطبائها الذين يعيش معظمهم على دولارين أو اقل حيث لم تكن تصدق في يوم من الأيام أنها ستحظى بنعمة الأمومة و تحمل بطفلين بدلا من واحد دفعة كاملة و هي التي عانت الأمرين من العقم الذي أصابها سنوات عدة فتسبب لها بطلاقها مرتين و هي في ريعان شبابها بعد أن اجبرها والدها على ترك الجامعة و الزواج من شخصين يفوقانها في السن بحوالي 30 سنة فتصبح على إثر ذلك زهرة ذابلة تستجدي الغيث من السماء دون جدوى قبل أن يرويها بحنانه و عطفه بلا حدود بعد اقترانه أخيرا بها لتهل عليها الخيرات و السعادة الغامرة بلا توقف و لاسيما انه سعى جاهدا كطبيب نساء و ولادة لحل مشكلتها الموروثة منذ نعومة أظافرها الى ان تكللت مساعيه بالنجاح الباهر في ذلك ، و لكن الفرحة لم تكتمل ليصدم بوفاتها المفاجئة أمامه دون ان يتحرك من مكانه في غرفة العناية المركزة بلونها الأصفر الكئيب مما جعله طريح الفراش لأسابيع إثر تعرضه لانهيار عصبي حاد جراء ما حدث ، وعاوته الحالة ذاتها مرارا و تكرارا كلما لمس قميصها الوردي المحلي الصنع و المزركش بزخارف تنتمي إلى التراث الشعبي لسكان السواحل المطلة على بحر العرب و لاسيما أنها كانت تخفف من عناء فراقها و تحمل ولديه التؤامين اللذين لم يكن يطيق رؤيتهما حيث كان يحملهما مسؤولية وفاة والدتهما و هما بريئان من ذلك براءة الذئب من دم ابن يعقوب ، و في يوم من الأيام فوجئ باختفائه من خزانة ملابسه مما أثار غضبه و جنونه فطفق يقلب أرجاء الغرفة ثم بقية الغرف بحثا عنها دون توقف فلم يجد لها أي أثر يذكر ، فاشتعلت في جسده و عقله نيران اليأس و الحقد ضدهما الى حد لا يوصف فانتزعهما من المهد ليأخذهما على متن سيارته سعيا وراء الخلاص منهما تماما متهما إياهما بقتل والدتهما ليحكم عليهما بالإعدام دون عقد أو إبرام لحظة وضعهما معا أمام إحدى دور الأيتام قبل ان تظهر أمامه قبل ان يتجه الى سيارته فيفاجأ بها فيتبدل وجهه بسرعة البرق و اختفت ملامح الغضب التي كانت تعتريه قبل قليل عند رؤيتها تبكي أمامه بحرقة شديدة دون ان تنطق بكلمة واحدة و عيناها توبخانه على تصرفه المشين هاتان اللتان لم تتوقفا عن ذرف دموع الألم و الغضب و عندما اقترب منها كانت تختفي و تظهر في مكان آخر فكرر الفعل ثلاث مرات دون فائدة فعدل عن ذلك فقرر ان يعدل عن تصرفه السابق ذكره فحملهما من عتبة باب الدار بسرعة خاطفة قبل أن يراه احد و أعادهما الى السيارة فانفرجت أساريرها و اقتربت منه كثيرا و أمسكت بيديه ليغرق في دهشته فاغرا فاه الى حد كبير لا يوصف و هو يسمعها تخبره بان قميصها الوردي ملفوف في دثار الطفلين فسرعان ما ينطلق ناحيتهما فيتأكد من صدقها فما ان التفت إليها حتى اختفت تماما من عينيه قبل ان يرتد طرفه ليدرك خلال عودته الى البيت سعيدا جزلانا بأن روحها لا تزال حية و مغروسة في جسدي ولديه البيضاويين الرقيقين و لن تفارقه و تبتعد عنه مهما طال الزمن أو قصر..
