في الحادي عشر من تشرين الثاني عام 1982 ، هزّ انفجارٌ ضخمٌ مقرّ الحاكم العسكريّ الصهيونيّ في صور ، فاجتثّ المبنى ، بكلّ طبقاتِه، من أساسه ، وأسفر عن مقتل وجرح ما يقارب المئتَيْ عسكريٍّ صهيونيٍّ بين ضابطٍ وجنديّ .
كان ذلك صدمةً ، غير مُتَوقّعة لوزير الحرب الإسرائيليّ ، آنذاك ، أرييل شارون ، الذي ظنّ أنّ خروجَ المقاومة الفلسطينية من بيروتَ المحتلّة ، مع إرهابِ مجازر صبرا وشاتيلا ، كفيلٌ بِجَعْلِهِ ” يَمدُّ قدَمَيه ” مرتاح البال . فإذا هو ، أمام هول هذه ” الكارثة ” التي ” أطارت أوهامه ” تائهٌ – ككلّ قيادات العدو – لا يدري ماذا سيفعل ، وماذا سيقول ، ويُبرّر ، فلجأ إلى سلاح المهزومين من ” أنظمة العرب ” ، وهو : الكذب المفضوح!
هكذا ، روّجَ الصهاينة ، يومها ، أنّ ما حدثَ لا يعدو كونه تفاعلاتٍ لانفجار قارورة غاز ، أو عدّةٍ منها ، وغيرها من التّلفيقاتِ التي ساعدهم ” الكتمان المقصود لسِرّ الفاعل ” وعدم الإعلان عن طبيعة العمل ومُنفّذِهِ – بحُكم ظروف الإحتلال- على الايغال في الكذب ، والتكاذب بغاية التضليل ، في ظروفٍ بائسةٍ يعيشها واقعنا الشعبيّ العربيّ : داخلَ لبنان ، وخارجه ؟!
كان عملُ ” أمير الإستشهاديّين ” : أحمد قصير ، فاتحةَ عهدٍ جديدٍ في أساليب المقاومة ، لم يتعرّضْ لمِثْلِه الكيان الصهيونيّ منذ اغتصابه لأرض فلسطين ، إذْ أسّسَ لمُسلسلٍ استشهاديٍّ زعزع منظومة كلّ ما كدّسَهُ العدوّ من ” ثقةٍ جامحةٍ بالنفس ” حدّ العجرفة والإستعلاء إبّان مواجهاته وعدواناته المتكرّرة على الأرض العربية وأنظمتها الحاكمة ، ” ساترًا عوراتِهِ” بأقمشةِ ضعفها واستسلامها ” القَدَرِيّ ” لعدوٍّ ” لا يُقهَر ” !
منذئذٍ ، تطارَحَ الصهاينة سؤالًا واحدًا ، لم يجدوا عليه جوابًا شافيًا : بِمَ يُمكِنُنا تهديدُ مَن يأتي إلى الموت بقدمَيْه ؟! أبِالموتِ الذي يطلبُهُ ويسعى إليه راغبًا متشوّقا ؟؟!
وانهزمت ” إسرائيلُ ” عام ألفين وألفين وستّة … واشتعلت المنطقة العربية ، منذ ستّ سنواتٍ ، وما زالت النيرانُ تمدّ ألسنتها لقُطْرٍ بعد الآخر … إلّا أنّ أمرًا واحدًا بقِيَ ينظُمُ هذه المسيرة التي افتتحها الإستشهاديّ أحمد قصير : هو التفاني في الإندفاع نحو المواجهة المتواصلة ، وعلى امتداد الأرض العربية : من لبنان إلى سوريا ، فالعراق والبحرين ، واليمن وليبيا ، تواصلًا مع نضالات الشعب العربي داخل فلسطين المحتلّة .
واقع الأمر : لم يَعُدْ مقبولًا أن يختصّ ” يومُ الشهيد ” بفئةٍ معيّنةٍ ، أو حزبٍ واحد ، لأنّ ما تمّ في هذا اليومِ المشهود ، هو ليس لكلّ لبنان ، فقط ، بل لكلّ العرب ، كونَهُ ” خَرَقَ ” مفهوم التّرهُّلِ والإستسلام الذي كان يلفّ أمّتنا بأكملها – قَبْلهُ – وانفتح بابُ الشهادة والنّصرِ ، على مصراعَيْه ، بعد ذلك ؟!
ألحادي عشر من تشرين الثاني هو أوجبُ الوفاء بأنْ يكون ” يومَ الشهيد العربيّ ” الذي تنبّأ به الشاعر المصريّ الثوريّ ، كمال عبد الحليم ، في بعض ما قاله :
أنا إنْ عشتُ وشعبي مُرهَقٌ مُستغَلٌّ ثمّ لم أمْدُدْ يَدي
فأنا لستُ بإنسانٍ لهُ عيدُ ميلادٍ – أنا لمْ أُولَدِ ؟!
كاتب لبناني