د.عبدالحكيم باقيس
على الرغم من أن المذكرات تعدُّ جنسًا أدبيا له ميزاته الخاصة بين بقية أجناس الكتابة الذاتية (الرحلة، رواية السيرة الذاتية، اليوميات، المذكرات، الذكريات، المقالة الذاتية، الاعترفات، الرسم الذاتي، السيرة الذاتية…)، فهي أكثر قربًا من السيرة الذاتية، بل نظر إلى المذكرات في كثير من الأحيان بوصفها سيرًا ذاتية تحكي تفاصيل حياة تتصل بكتابها، ويبدو أن عددًا من المذكرات في الآداب الإنسانية كافة لم تخيب أفق توقعات القراء منها بوصفها تحمل تفاصيل الحياتين العامة والخاصة لكتابها، ليس المجال هنا البحث في الخصائص المميزة لهذين الجنسين الأدبيين، فذلك ما تصدت له الدراسات النقدية المختصة في أشكال الكتابة الذاتية، والتي يمكن الرجوع إليها في فض الاشتباك أو الالتباس بينهما، لكن تجب الإشارة إلى وجود تداخل كبير بينهما.
وغني عن البيان أن كتابة المذكرات أكثر انتشارًا بين الناس من كتابة السير الذاتية، بسبب تجنب الحرج الذي قد يشعر به المرء عند كتابة السيرة الذاتية، ونظرًا لاشتغال كثير من الشخصيات العامة بالمذكرات، يشترك في ذلك السياسيون والعسكريون والاقتصاديون والأدباء وغيرهم، وقد درجت النظرة في بيئاتنا المحلية أن من لهم صله مباشرة بمسارات الحياة السياسية والفكرية هم الذين يقدمون على هذا اللون من الكتابة، بوصفهم شركاء بطريقة أو بأخرى في التأثير على الحياة العامة.
وحين يكتب الشاعر عبدالله البردوني مذكراته، وهو غني التعريف، بوصفه واحدًا من أعلام الشعر والأدب العربي الحديث، والنضال الوطني، سيرتفع معدل أفق توقعنا من هذه المذكرات في إضاءة بعض الجوانب في تاريخنا الحديث، وفي الكشف عن تفاصيل ترصد من زاوية رجل عرف بشجاعته ومواقفه القوية تجاه الأحداث العامة.. لكن السؤال كيف كتب البردوني مذكراته، وما قصة هذه المذكرات، وما الموضوعات أو القضايا التي أثارتها هذه المذكرات؟.
قبل أكثر من خمس سنوات يضع الأستاذ الدكتور حيدر محمود غيلان (وهو واحد من الباحثين الأكاديميين والنقاد اليمنيين الكبار) يده على كنز ثمين، وهو عبارة عن سلسلة من المقالات التي كتبها عبدالله البردوني في صحيفة 26 سبتمبر خلال المدة من 10أكتوبر 1996 إلى 26 أغسطس 1999، وقد حملت توقيع (المواطن عبدالله البردوني) وغير خاف المعاني والدلالة التي تحملها صفة (مواطن). وهي مذكرات تروي للمرة الأولى تفاصيل ومعلومات عن حياته ومشاركته في الحياة العامة، وتشكل مادة سردية مهمة للباحثين في التاريخ العام، وفي التاريخ الشخصي لحياة صاحبها الذي فرغ من كتابة آخر حلقاتها قبل وفاته بأربعة أيام (توفي البردوني في 30 أغسطس 1999) ومجموعها في أربعة وأربعين حلقة، يبدو فيها البردوني على وعي كبير بكتابة الذات، وربما كان في طريقه لكتابة المزيد من هذه المذكرات التي تسلط الضوء للمرة الأولى على حياته، غير أن الأجل لم يمهله لإتمامها، وعلى الرغم من ذلك قدمت مادة حياتية مهمة عن هذا الراحل الكبير، الذي يجيب على من يرغب في المزيد من التلصص على الحياة الخاصة، ذلك التلصص المحمود الذي يدفع قارئ السير الذاتية إلى البحث في تفاصيل حياة كاتب السيرة أو المذكرات أن مذكراته ستنطوي على القدر الذي يجب الإفضاء به مما يتصل بالمشترك الثقافي، يقول فيما يبدو أنه صياغة للميثاق السيرذاتي في نهاية الحلقة اﻷولى من المذكرات: “هذا العرض السريع لما يهم القارئ من سيرة البردوني، أما سائر السيرة الذاتية، فلا يفيد أحدًا أن يعرف متى أنام، ومتى أصحو، وماذا آكل وما أدع، فهذا اعتياد شائع بين كل آكل وشارب ومضطر إلى ذلك، أرجو أني أحسنت الإجابة وأرضيت الداعين إلى المواقف الثقافية المشتركة بيني وبين القارئ” ص58.
ومما لا شك فيه أن هذه المذكرات ستحتل مكانة خاصة في أدب المذكرات والسيرة الذاتية للباحثين في التاريخ الأدبي، ولعل عمل الأستاذ الدكتور حيدر غيلان الذي أعاد جمعها ونشرها في كتاب يحمل عنوان (مذكرات الشاعر عبدالله البردوني) أشبه بعمل طاهر الطناحي الذي جمع ونشر سلسلة مقالات كتبها عباس محمود العقاد في مجلة الهلال، فشكلت بعد ذلك كتاب سيرة العقاد الذاتية التي حملت عنوان (أنا).
وقد قدم الدكتور حيدر غيلان لهذه المذكرات بدراسة قيمة بعنوان (مذكرات البردوني الأبعاد المعرفية والسمات الأدبية) وجاءت في مبحثين: تناول الأول القيمة المعرفية والتأريخية لمذكرات البردوني، بوصفها مذكرات تتقاطع فيها مادة المذكرات مع مادة السيرة الذاتية، المادة التي تروي الأحداث الخارجية من وجهة نظر البردوني وشهاداته على الأحداث التي عايشها، والمادة التي تكشف عن مسارات الحياة الخاصة للشاعر/ المواطن عبدالله البردوني. وتناول المبحث الآخر خصائص السرد في هذه المذكرات، متوقفا عند الأسلوب الذي تميز به البردوني في رواية مذكراته، ذلك الأسلوب الذي يشكل سمة عامة في ممارسته الأدبية، التداعي والقص، والمفارقة والسخرية، والميل إلى تسريد الوقائع بصورة لم تخل من الطرافة، وغير ذلك من استراتجيات التعبير عند البردوني.
يذكر عبدالله البردوني دواعي تأليفه لهذه المذكرات في الحلقة الأولى التي نشرها بعنوان (إلزام.. وملزم) في 10/10/1996، أنه بعد أن كتب مقالًا تأبينيًا بمناسبة وفاة الأستاذ أحمد محمد نعمان ذكر فيه الذكريات التي جمعتهما معًا في رحلة نضالهما الوطني، فتلقى بعد نشره لذلك المقال عددًا من الاتصالات والرسائل التي تطلب منه الاستمرار في استدعاء مثل هذه الذكريات المتصلة بحياته، فجاءت سلسلة المقالات التي يروي فيها مذكراته استجابة لهذه الدعوات، وقد أشار إلى أنه في جل دواوينه الشعرية كان يمارس هذا اللون من الكتابة في استبطان الذات كما يفعل المحقق البوليسي لانتزاع المعلومات.
خرجت المذكرات من حيث التشكل في حلقات على شكل وحدات نصية قائمة بذاتها، كل حلقة تحمل عنوان خاص، وهو الأسلوب الذي تقتضيه طبيعة الكتابة الصُحفية، وقد تفطن الدكتور حيدر غيلان إلى خاصية الأسلوب المقالي، فقال: “.. لو كتب البردوني مذكراته دفعة واحدة للنشر في كتاب، لاختلفت في مضمونها وشكلها عن هذه الحلقات، كما أن هذه الحلقات لم تنل ما كان المرحوم البردوني يوليه لكتاباته الصحفية من المراجعة والترتيب، لإعادة نشرها ضمن كتاب، كما هو الحال في بعض كتبه المكونة من مقالات منشورة في صحف ومجلات، مما يعني أن فرضية عدم شمول هذا الكتاب (المذكرات) للحلقات كلها تظل واردة” ص49.
بسبب ظروف الطباعة جاء الكتاب في 412 صفحة، منها 46 صفحة للدراسة، وبقية الكتاب ضغطت فيه طباعة المذكرات بحرف طباعي صغير، وقد صدر الكتاب عن وزارة الثقافة اليمنية في 2013، ونأمل أن يجد طريقه بيسر إلى أيدي جمهور القراء والباحثين.