ناصيف ياسين*
بعدما غطّى الغبارُ كرسيَّ القصرِ الجمهوريّ ، في لبنان ، لمدةٍ تزيد على السّنتين ونصف ، واطمأنّت العناكبُ لخيوطِ شِباكِها في زواياه ، واحتبسَ رشاشُ الماء في غِمْدِ ” نافورَتِه ” ، وارتاحت سجّادتُهُ الحمراء مِن دَوْسِ القاصدين ، جاء الجنرال ميشيل عون رئيسًا مُنتَخَبًا ” لكلّ لبنان ” ، على غير ما أُقْصِيَ عنه – على وقْعِ المَدافِعِ- ” مُكلّفًا ” من أمين الجميّل : لِشَطْرٍ واحدٍ من الوطن الذي كانت قد قسّمَتْه الحربُ الأهليّة .
مثل كلّ نجاحٍ حين يكثر ” آباؤه” ومُنتَحِلو صفةِ إنجازه : فقد أظهرت ” أكثريةُ ” القوى رضاها عن مجيئه ، وتباهى كلّ طرفٍ من جهته ، أنه الأساس في إيصالِهِ إلى سدّة الحكم ” رئيسًا سويًّا ” ، حتى اختلطت ، يوم الإبتهاج بنجاحه ، أعلامُ كل ” المتناقضين والمُتخاصمين ” ، في مشهدٍ ” سورياليٍّ ” يَعصى على فَهْمِ المُراقبِ العَجولِ فَكُّ طلاسمِه ، لا سيّما وأنّ دوافعَ كلّ طرَفٍ لا تقربُ ” كيمياء ” الأطرافِ الأخرى .
لكن ، وبقليلٍ من التروّي ، وتَتَبُّعِ مآلاتِ الساحات العربية المشتعلة ، ومكامن تجاذبٍ القوى الأساسية اللاعبة فيها ، لا سيّما مَنْ كان منها مٍن داخلِ لبنان ، يصِل إلى ” القطبة المخفيّة ” التي بدتْ فيها الأمور – على الساحة اللبنانية – أكثر وضوحًا بعد هزيمة العدو الصهيونيّ ، عام ألفين :
يومها ، كان الرئيس إميل لحّود شاهدًا على تلك المرحلة، وفاعلًا قدْرَ ما اتّسع له موقعُهُ : إلى درجةٍ دفعتْهُ إلى إقفال سمّاعة الهاتف بوجه وزيرة الخارجية الأمريكية : مادلين أولبرايت حينما شعَر أنها تريد المسَاسَ بما لا يرغبه تجاه المقاومة ودورها ، فوضَع بذلك – مستقويًا بالمقاومة وداعمًا فاعلًا معها – حجَرَ الأساسِ لمصنع الرئاسة ” في لبنان ” !
لكن ، بعد مقتل رفيق الحريري ، وما نتج عنه ، كتامرٍ لإزاحة لحّود وما يمثّله ، وفشلُ ذلك ، تدخّل العدو الصهيونيّ بعدوانه الواسع عام ألفين وستّة ، لتقوية الطرف اللبنانيّ الذي يُحابيه ، فهُزِموا جميعًا ؟! وتمّ اللجوء بعدها إلى ابتداع مشكلة ” شبكة اتصالات حزب الله ” من طرف ” 14 آذار ” ، بشخص مروان حمادة في ” وزارة الإتصالات ” التي أدت إلى ” السابع من أيار ” الذي أتى بميشيل سليمان ” رئيسًا ” وسطًا – بنصف حل ” بعد الصفعة التي تلقّاها سعد الحريري وجماعته ، وبقيَ ما للمقاومة كاملَ الوجود ، دون المساسِ به !
إلّا أنّ الرئيس ” الوسطيّ ” مالَ عن المقاومة ، واعتبرها ” لزومَ ما لا يلزم ” بتصريحاته ” الخشبية الجافّة ” ، مكرّسًا مدة حكمه على اهتماماته الشخصية ومصالح ” آذاريّيه ” لدرجة أنّ ” ألِيْس شبطيني ” : التي تُمثّله في محاكمة عملاء العدوّ الصهيونيّ ، أطلقت سراح أولئك العملاء بمحاكماتٍ صُوَريّة وأحكامٍ مُخَفّفة إلى أن انتهى عهده ، وفرغ كرسيّ الرئاسة ممّن يشغله حتى ألف يوم ؟! لأنّ تجربة المقاومة دفعتها إلى الإحجامِ عن إعادة اللدغِ من نفس الجُحْر مرّتين ، في ظل ظروفٍ تُصرّ السعودية فيها إلى قطْعِ كلّ نفَسٍ مقاومٍ ، في المنطقة ، لصالح ” إسرائيل ” وأمريكا وبفية التابعين ، بعد إشعال الحروب في سوريا والعراق وليبيا واليمن ، وما طال لبنان منها بأعمال عصابات الإرهاب التكفيريّ .
لذا ، مع تحوّلات موازين القوى في المنطقة لغير صالح السعودية وحِلفها ، وعجز قوى الداخل اللبنانيّ المُلْحَقَة بها ، كان لا بدّ من مجيء حليف المقاومة الذي أكّدت حرب الثلاثة وثلاثين يومًا ، وما بعدها، متانة تعهّده ، ومضمونُ خطاب القسَمِ كان خير تاكيد جديد يقدّمُهُ ” عون ” في يومه الرئاسيّ الأول ؟!
بكلمة : ميشيل عون : إنْ كان صِنعةً لبنانية ، فهو من إنتاج حلف المقاومة في الداخل … وإن قيلَ للخارجِ دورٌ ، فهو لحلف المقاومة والمُمانعَة … ومجيء المبعوث السعودي : ثامر السّبهان لم يكن إلّا ” لِلْبَصْم ” على واقع الحال ، واستشراف ما يُمكنه فِعْلُهُ من تآمرٍ في الداخل اللبنانيّ – مستقبلًا – بعدما طُرِدَ من العراق !
لقد أثبت لبنان بمقاوميه أنه أكبر من مساحته وأقوى من تطاول أيدي شذّاذ الآفاق ؟! !
كاتب لبناني
