نور الدين قلالة
عندما كتب المفكر الأمريكي الياباني فرانسيس فوكوياما مقالته الشهيرة عن “نهاية التاريخ” لم يكن يتوقع أن تحدث كل تلك الضجة والاهتمام، وعندما نتحدث اليوم عن “نهاية الجغرافيا” لا نتوقع للفكرة أن تتعرض لنفس الاهتمام أو أن تحدث تغييراً جذرياً في الفكر الإنساني أو حتى مجرد قطيعة معرفية في مسار قراءة الأحداث التي تضرب منطقتنا في السنوات الأخيرة.. ولكن هل تاريخنا كعرب ومسلمين انتهى وجغرافيتنا بصدد الانتهاء؟ وهل يعقل ونحن أصحاب حضارة أن نفقد التاريخ والجغرافيا معاً؟
معروف أن مقالة فوكوياما الذائعة الصيت، والتي تحولت فيما بعد إلى نظرية قائمة بذاتها أثارت جدلاً كبيراً، رغم أن صاحبها نفسه اعترف في البدايات أنه لا يفهم سبب الضجة حولها؛ لأن المقالة ليست متعلقة بأي سياسة تُذكر بقدرِ ما كانت مُجرد أمر يفكر فيه، ولأن فوكوياما كان يشغل آنذاك منصب نائب مدير التخطيط السياسي في وزارة الخارجية الأمريكية، فقد ارتبط اسمه بالمحافظين الجدد خلال العقدين الأخيرين من القرن العشرين، ومن ثم اعتبرت نظريته أطروحة أساسية لتمجيد الديمقراطية الليبرالية بقيمها عن الحرية والفردية والمساواة ومبادئ الليبرالية الاقتصادية، بحكم أنها تُشكل مرحلة نهاية التطور الأيديولوجي للإنسان بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وبالتالي عولمة الديمقراطية الليبرالية كصيغة نهائية للحكومة البشرية تحت سيطرة قوة واحدة هي الولايات المتحدة.
وبدون الغوص في فلسفة فوكوياما ونظريته، التي سار فيها على خطى فلاسفة آخرين مثل كانط، ومور، وهيجل وماركس وحتى أفلاطون.. نطرح سؤالاً بسيطاً: هل سيعرف التاريخ نهاية أخرى في زمن الحديث عن قرب انهيار الإمبراطورية الأمريكية؟ وطرح هذا السؤال هو في الأساس استناداً لفكرة التاريخ الذي يتطور على أساس سقوط حضارات ونشوء حضارات جديدة محلها، خاصة وأن ما يميز الإمبراطوريات هو أن نهايتها تأتي عندما تبلغ أقصى توسعها، وتعجز عن حمل عبء هذا التوسع.
كثير من الباحثين والكتَّاب السياسيين، بينهم أمريكيون، تحدثوا كثيراً عن تراجع القوة الأمريكية وبدء انهيار هذه الإمبراطورية في شكلها التسلطي والقيادي، وعزا بعضهم الأسباب لضعف الداخل الأمريكي، فيما لمح آخرون لصعود قوى أخرى دولية وإقليمية ممثلة في الصين والهند وتركيا وإيران، لكن الذين يتحدثون عن هذا التغير المتوقع، والذي يمكن ربطه من جديد بفكرة نهاية التاريخ، لا يتحدثون حقيقة عن طبيعة الجغرافيا السياسية والديموجرافية والطبوغرافية التي تصاحب هذا التحول التاريخي الكبير.
لست منظراً ولا فيلسوفاً مثل فوكوياما أو غيره، ولكنني أعتقد أن نهاية التاريخ هذه المرة، لن يتسنى لها بأن تحدث “قطيعة معرفية” حقيقية ما لم يتم العبث بالجغرافيا، خاصة في منطقتنا العربية، التي حتماً ستكون القاطرة الأساسية لحمل الولايات المتحدة على الانكفاء، أو ما يمكن تسميته بـ”التراجع المثمر” الذي يجنبها خسائر وتكاليف إضافية تقول: إنها أصبحت في غنى عنها؛ وبالتالي فإن نهاية التاريخ هذه المرة ستكون منطلقاتها براجماتية وليست فلسفية أو أيديولوجية.
ولأن نهاية التاريخ لا تعني على الإطلاق توقف الأحداث أو العالَم عن الوجود، ولا تقترح تلقائياً تبني كافة مجتمعات العالم للديمقراطية، فإن العالم سيكون مرة أخرى مسرحاً لسلسلة من الأحداث المترابطة التي ستكون النواة الأولى لعالم جديد ومتغير، بغض النظر عمن يسعد ويهنأ فيه.
وعلى ذكر هذه “النهايات” ومواطن السعادة التي قد تأتي بعدها، يجب أن نعترف أن منطقتنا العربية حالياً وأعني بذلك سورية وليبيا والعراق وغيرها، يتم تجريدها من تاريخها ورموز حضاراتها في نفس الوقت الذي يتم فيه تفكيكها جغرافيا وديموجرافيا واقتصادياً، بدأت الأمور بفرض إعادة النظر في مقررات التاريخ والجغرافيا في منظوماتنا التعليمية، بحجة موجة الكراهية للغرب عقب هجمات 11 سبتمبر، واليوم يجري الإعداد لهيكلة جديدة تأخذ في الحسبان مناطق النفوذ والسيطرة ليس فقط للولايات المتحدة، وإنما أيضاً لروسيا العائدة من بعيد، وأوروبا والصين وتركيا وإيران وحتماً “إسرائيل”.
ويبدو لي أن عملية التفكيك بدأت منذ عقود من الزمن على المستوى الثقافي، كمقدمة لإعادة نحت العقل العربي الرافض لمنطق الغرب، وقد رأينا كيف أدى الإعلام الغربي دوره في تشكيل المحتوى الثقافي العربي والإسلامي بصورة تغريبية مدمرة، آثارها ونتائجها الكارثية ظاهرة للعيان في كثير من القطاعات، ولعل التفكك الثقافي هو القاطرة التي ستستغلها أمريكا وحلفائها للتفكيك الجغرافي.
والحقيقة أن الجغرافيا انتهت منذ أن فقد الإنسان الإحساس بالسيادة، وأصبح يعيش في “قرية دولية” مرتبطة بشبكات الإنترنت وبرامج “السكايب” و”الفيسبوك” و”التويتر”، لم يعد هناك أي أهمية للعناصر الأساسية المكونة للدولة التي درسونا إياها في العلوم السياسية؛ أي “الشعب والسلطة والإقليم”، فهناك شعوب بلا أقاليم وأقاليم بلا سلطات وسلطات بلا شعوب، بل إن الجغرافيا تكاد تدخل مرحلة الاحتضار بعدما انطفأت رغبة البشر في الاستكشاف ولم يعد هناك شبر أرض غير مأهول.
لكن بالمقابل؛ فإن العولمة التي قللت من أهمية الجغرافيا عندما قضت على الحواجز والقيود التي كانت تحدد التبادل التجاري العالمي وخلقت أسواقاً عالمية مفتوحة أبوابها أمام كل الأسواق العالمية التي اجتثتها العولمة من انتمائها الجغرافي والثقافي، هذه العولمة – للأسف – لم تنجح في العراق وسورية واليمن وليبيا، بل أعادت المنطقة إلى زمن الطائفة والقبيلة إلى ما قبل الدولة الحديثة.
والخلاصة أن التاريخ ربما لن ينتهي، والجغرافيا لن تنتهي أيضاً، لكن الذي سينتهي حتماً هو تاريخنا وجغرافيتنا فقط، عندما يتم طردنا نهائياً من الخارطة العالمية لنعيش خارج زماننا وخارج مكاننا بعد أن فقدنا كل شيء.. نعم كل شيء.
المصدر: “إسلام أون لاين”.