- يعمد المرضى من زارعي الكلى إلى التجمهر في الشارع، الذي يقع فيه مكتب الأمم المتحدة في صنعاء، رافعين لافتات طلب الاستغاثة
- تعوّل وزارة الصحة على المنظمات الدولية، من خلال نداءات استغاثة متوالية، وصلت إلى ستة نداءات بثتها وسائل الإعلام المحلية تباعاً منذ اندلاع الحرب
تحقيق : عبدالله حزام
تجتر أسرة الشاب اليمني علي التويتي، مرارة الألم كلما شاهدت التلفاز أو المذياع يبث نداء استغاثة، يتوسل المنظمات الدولية من أجل توفير أدوية لزارعي الكلى في اليمن، بعد أن خطف الموت ابنهم العشريني، بعيداً عن رصاص الحرب.
على الرغم من استقرار صحة علي، بعد زراعة الكلية التي تبرعت بها شقيقته نجوى (25 عاماً)، في 14 نوفمبر/ تشرين الثاني 2014، تدهورت حالته الصحية بعد اندلاع الحرب، إذ انقطع صرف دواءي تثبيط المناعة (سيليسبت) و(بروغراف) واللذين يحولان دون رفض الجسم للكلية الجديدة، بعد توقف وزارة الصحة منذ منتصف أبريل/ نيسان 2015، عن صرف الدواء المجاني ما أدى إلى زيادة نسبة الكرياتينين في دمه.
والكرياتينين هو ناتج عملية هدم البروتين، الذي لا يستفيد منه الجسم، ويستخلص من الدم عن طريق الكلى، وفي حال ضعف التصفية في الكلية ترتفع مستوياته في الدم ما يؤدي إلى الفشل الكلوي. وفق توضيح استشاري الكلى والمسالك البولية بمستشفى ابن سيناء التخصصي (خاص) الدكتور خالد تلها.
بصعوبة بالغة صمد علي، نحو ثمانية أشهر منذ اندلاع الحرب في 26 مارس/آذار 2015، يقاوم الفشل الكلوي مجدداً، لكنه استسلم في نهاية المطاف بسبب ضيق ذات اليد الذي تعيشه أسرته، إذ كان علاج علي، يكلف شهرياً نحو 110 آلاف ريال (478 دولارا) لشراء دواء السيليسبت والبروجراف من القطاع الخاص، وهو ما لا يقدر عليه والده الخمسيني، الذي يطعم بالكاد أسرته المكونة من زوجة وخمس فتيات، إذ يعمل حارساً لمدرسة خاصة براتب 50 ألف ريال (200 دولار) شهرياً، ما جعله عاجزاً عن توفير قيمة الدواء لنجله الوحيد الذي صارع الفشل الكلوي متشبثا بالحياة.
ووفقاً لتأكيدات طبيبه المعالج بمركز كلى مستشفى الثورة الحكومي بصنعاء، الدكتور نجيب أبو أصبع، فقد دخل علي بعد انقطاعه عن الدواء منذ منتصف أبريل/ نيسان 2015 في صراع مع أعراض رفض الجسم للكلية المزروعة قبل وفاته (في 28 نوفمبر/ تشرين ثاني 2015) بشهر ونصف، تنوعت الأعراض بين تورم قدميه، وفقدان للذاكرة، وتجمع سوائل على الرئة، وغيبوبة لـ 15 يوماً.
1700 مريض مهدد بالموت
أسرة التويتي ليست وحدها من تعيش لوعة فراق ابنها لانعدام الدواء، الذي يحتاج إليه مدى الحياة 1700 يمني ويمنية من زارعي الكلى، أضحو مهددين بالموت بعد توقف صرف أدويتهم، الأمر الذي أدى إلى وفاة ستة يمنيين، رحلوا بصمت خلال عام واحد، بسبب نقص الأدوية الخاصة بزارعي الكلى بفعل الحرب، وانخفاض مخصصات وزارة الصحة، وعجز الأسر عن شراء الأدوية من السوق كما وثق معد التحقيق. من بين هؤلاء الثلاثيني عيسى لطف قاسم، والذي توفي في أغسطس/آب 2015، بعد زراعة كلية مطلع العام 2014.
تقول زوجته زكية، القاطنة في مدينة إب (193 كيلومترا جنوب صنعاء)، إن زوجها تعطّل عن العمل بعد زراعة كليته، وما زاد الحال سوءاً “منذ توقف العلاج المجاني”، أنّ عيسى خفض جرعة السيليسبت إلى قرص واحد بدلاً من أربعة أقراص في اليوم بسبب صعوبة شراء الدواء، كما خفض جرعة دواء النيورال إلى ما بين 3 إلى 4 ملغم، من أصل جرعة يومية مقدارها 6 ملغم، لعجزه عن الشراء من القطاع الخاص”.
يصف طبيبه المعالج، استشاري أمراض الباطنة وزراعة الكلى بمستشفى الثورة الدكتور عبده الزكري حالته، ويقول إن عدم التزام عيسى بدواء تثبيط المناعة بشكل منتظم رفع معدل المناعة لديه، ما أدى لرفض الجسم للكلية ودخوله مرحلة فشل كلوي حاد.
ويعمد المرضى من زارعي الكلى إلى التجمهر في الشارع، الذي يقع فيه مكتب الأمم المتحدة في صنعاء، رافعين لافتات طلب الاستغاثة لتزويدهم بالدواء الذي كان يقدمه برنامج الإمداد الدوائي بوزارة الصحة للمرضى مجانا، قبل الحرب بشكل منتظم فيما يتقلبون بعد اختفائه على جمر معاناتهم إذ أضحى الموت أقرب إليهم من حبل الوريد.
ومع اشتداد وتيرة الصراع الدائر كان هذا الأمل يتضاءل يوميا بالنسبة لهم، فهم يعيشون مطاردة مع الموت، والبلد كل يوم تسير بخطى مجنونة إلى مصير يشبه ما يتوقعونه لأنفسهم، وهو ما بدا على ملامح المرضى خصوصا عند النسوة والأطفال. واستمر هذا الشعور بالتكثف حتى اليوم لأن الحصول على الدواء المنقذ للحياة بالنسبة لهم صعب المنال، ولا يستطيع بعضهم شراءه لارتفاع أسعاره.
قبل الحرب وبعدها
مستشفى الثورة بصنعاء، كان نافذة صرف الدواء المجاني لـ 198 حالة زراعة كلى منذ مايو/أيار عام 1998، (تاريخ أول زراعة للكلى في اليمن)، بينما كان بقية المرضى الذين زرعوا كلى خارج اليمن، يستلمون الأدوية المجانية عبر الصيدلية المركزية التابعة للمستشفى الجمهوري.
يقول مشرف عام مركز الكلى بمستشفى الثورة الدكتور بسام السياني “منذ 1 سبتمبر/أيلول 2014، لم تدخل مخازن المستشفى أي أدوية لزارعي الكلى، وزاد الأمر سوءاً بعد الحرب، لعدم وجود مخصصات مالية لشراء أدوية زارعي الكلى، وعدم تفهم القائمين على وزارة الصحة خطورة وضع المرضى”.
وقبل أن تصدر منه تنهيدة عميقة، يؤكد السياني أن ست حالات توفيت نتيجة نقص الدواء، وثق المركز من بينها حالتي علي التويتي وعيسى قاسم، بينما توفيت أربع حالات بمناطق الصراع التي تشهد مواجهات مسلحة، بين شهري مايو/أيار وسبتمبر/أيلول 2015.
موازنة على الورق
لم يحصل برنامج الإمداد الدوائي بوزارة الصحة العامة والسكان، المعني مركزياً بتوفير أدوية المناعة، على ميزانية لشراء الدواء من وزارة المالية منذ منتصف 2014، كما يقول مدير المشتريات والمخازن بالبرنامج، الدكتور سمير الحناني.
تضاعفت المشكلة -وفقاً للحناني- بعد شهر مارس/ آذار 2015، إذ كانت ميزانية البرنامج للعام ذاته 2 مليار و366 مليون ريال (9 ملايين و467 ألف دولار) حصل البرنامج منها على دفعة من وزارة المالية، مقدارها 697 مليوناً و628 ألف ريال (2 مليون و790 ألف دولار) لمواجهة جزء من مديونية سابقة للشركات الموردة للدواء منذ العام 2011، أي صرف منها ما نسبته 29% فقط.
ويؤكد الحناني أن موازنة الأدوية المنقذة للحياة -والتي بدونها يموت المريض- تصل إلى 65% (6 ملايين و153 ألف دولار) من إجمالي موازنة برنامج الإمداد الدوائي السنوية للعام 2015.
السرير رقم (7)
مقارنة بما حدث لـ “علي وعيسى”، فإن عبير الشميري (25 عاماً)، تعد نفسها محظوظة. إذ تخضع لجلستي غسل كلى في السرير رقم (7) بمركز غسل المستشفى الجمهوري بصنعاء، أسبوعياً، بعد فشل زراعة كليتها للمرة الثانية في الأول من مايو/أيار 2015.
تقول عبير، وهي تجلس على كرسي إسمنتي مستطيل في باحة المستشفى الجمهوري “طيلة خمسة أشهر لم أنتظم في الجرعة الدوائية، لعدم قدرة والدي الذي يعمل في ورشة صيانة سيارات، على شراء الدواء، بعد انقطاعه من المستشفى الحكومي”.
ويكلف شراء السيليسبت من الصيدليات الخاصة نحو 40 ألف ريال (170 دولاراً)، مقارنة بسعره السابق قبل الحرب 30 ألف ريال (120 دولارا)، فيما بقي البروغراف ثابتاً عند 70 ألف ريال (308 دولارات) وفقا لما أكدته عبير.
وتعد حالة طالبة الطب البشري، عبير، التي توفيت بعد إنجاز التحقيق، نموذجا على تلك المعاناة، إذ لم تُفلح جلسات الغسيل الكلوي الأسبوعية في إبقائها على قيد الحياة، بعد أن تصاعد الكرياتين في دمها تدريجيا بسبب انقطاعها عن الدواء المناعي المثبط.
وكانت عبير قد خرجت من مأساة الغسيل الكلوي بفيروس الكبد (سي)، الذي تم اكتشافه في دمها قبل وفاتها بأسبوع، وانتقل إلى دمها من مريض هو الآخر يغسل كلى، في إشارة من شقيقها إلى أن أجهزة الغسيل الكلوي لا تلقى التعقيم المطلوب، ما يفتح الباب على أسئلة حول معاناة 4400 من مرضى الفشل الكلوي، ينتظرون دورهم لزراعة كلى تخفف آلامهم المستمرة.
دواء منتهي الصلاحية
عبدالقاهر الشرماني (30 عاماً) عاطل عن العمل وأحد الحالات التي رافقها معد التحقيق في زيارة الصيدلية المركزية بالمستشفى الجمهوري في صنعاء، بتاريخ 23 أبريل/نيسان 2016.
أخذ عبد القاهر نفساً عميقاً، قبل أن يؤكد بنبرة متثاقلة، وعيناه مسمرتان على النافذة المغلقة للصيدلية المركزية بالمستشفى الجمهوري بصنعاء “أستخدم حالياً نيورال (دواء لتثبيط المناعة) منتهي الصلاحية حصلت عليه مجاناً من صديق زرع كلية”.
برر عبد القاهر الأمر بعدم قدرته على شرائه من السوق بـ 30 ألف ريال (120 دولارا) للجرعة الشهرية. لكن استشاري الباطنة وزراعة الكلى عبده الزكري قلل من خطر أن يكون الدواء منتهي الصلاحية، وزاد بالقول: “لديه فترة أمان لمدة شهر وأقصى ما ينتج عنه أنه لا يحقق نتيجة دوائية”.
صعوبة شراء الدواء
ذات مصير هؤلاء الشبان بات يهدد نحو 1700 من زارعي الكلى في اليمن، إلى جانب 4400 مريض بالفشل الكلوي تتوقف حياتهم على الغسل الدموي، وينتظرون توقف الحرب للبدء بعملية زراعة كلية (طبقاً لإحصاءات وزارة الصحة، وجمعية الرحمة لزارعي الكلى)، إذ يعاني أغلب الزارعين من اضطراب في نسبة الكرياتينين، لعدم تمكنهم من الانتظام في استخدام أدوية تثبيط المناعة، التي تساعد الجسم على تقبل الأعضاء والأنسجة الجديدة المزروعة في أجسادهم.
على مدى الأشهر الثلاثة الماضية، تتبع معد التحقيق عشر حالات، توفيت منها حالتان، فيما دخلت حالتان مجدداً مرحلة فشل كلوي، والبقية مهددة بذات المصير، طبقاً لإفادات مرضى وذويهم.
ثماني حالات من التي قابلها معد التحقيق، طلب منها الأطباء الاستمرار على السيليسبت بواقع أربعة أقراص، والنيورال 150ملغ والبروجراف 2 ملغ، كجرعة طبيعية لكل المرضى موزعة على اليوم الواحد، وفق مسؤول صرف أدوية تثبيط المناعة بالصيدلية المركزية بالمستشفى الجمهوري بصنعاء، الدكتور وليد سيف.
غير أن هؤلاء وجدوا صعوبة في شراء الدواء، “في ظل واقع أصبح فيه 80% من سكان البلاد، أو ما يمثل 20 مليوناً من أصل 24 مليون نسمة، في عداد الفقراء، مقارنة بـ 54% قبل الحرب”، حسب تقديرات مجموعة البنك الدولي في موجزها الاقتصادي الفصلي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في فبراير/شباط 2016.
الكارثة بالأرقام
وفقا لاستبيان وزعه معد التحقيق على عينة عشوائية من زارعي الكلى في العاصمة صنعاء مكونة من 50 مريضاً، تبين أن 80% يواجهون صعوبة مالية في الحصول على الدواء، مقابل 8% يتاح لهم الحصول عليه عبر مسافرين من أقاربهم في السعودية والأردن، و12% يحصلون عليه من جمعيات وفاعلي خير. ويظهر الاستبيان أن 32% من المرضى غير قادرين على الاستمرار في شراء الدواء، فيما 58% يستطيعون مؤقتاً شراء الدواء البديل الذي تصنعه شركات أخرى أجنبية غير الشركة الأم، ويقل سعره عن سعر دواء الشركة الأم بما مقداره 10% كحد أدنى، طبقا لتأكيد مالك صيدلية الرازي بحي عصر السفلى في صنعاء، الدكتور هاني الأصبحي.
ووفقاً للاستبيان، فإن بقية أفراد العينة ويمثلون 10% يحصلون على الدواء بصعوبة من السوق السوداء ومن أقارب لهم في الخارج أو جمعيات وفاعلي خير لكنهم أكدوا في الوقت عينه عدم قدرتهم مستقبلاً على الاستمرار في شراء الدواء المطلوب مدى الحياة. ويصف استشاري الكلى والمسالك البولية، ونائب مدير مركز الكلى بمستشفى الثورة بصنعاء، الدكتور نجيب أبو أصبع، النسب التي كشفها الاستبيان بـ “الكارثية”، لأن انقطاع المريض عن الدواء يرفع مناعته، ما يؤدي إلى رفض الجسم للكلية وتراكم الكرياتينين في الدم.
على باب المنظمات
أمام هذا الوضع المتفاقم، تعوّل وزارة الصحة على المنظمات الدولية، من خلال نداءات استغاثة متوالية، وصلت إلى ستة نداءات بثتها وسائل الإعلام المحلية تباعاً منذ اندلاع الحرب، آخرها كان في 20 يونيو/حزيران 2016.
ويصف المتحدث الصحافي للصليب الأحمر الدولي في اليمن عدنان حزام وضع أمراض الكلى “بالمتدهور” نتيجة الصراع الدائر وشح الدواء في الأسواق. وأكد لـ”العربي الجديد”، أن الصليب الأحمر زوّد وزارة الصحة العامة والسكان بنحو 250 ألف جرعة من مستلزمات مرضى الفشل الكلوي وزارعي الكلى وزارعي الأعضاء بشكل عام، موزعة على دفعتين في يوليو/تموز 2015، ويناير/كانون الثاني 2016، رغم أن تركيزهم ينصب على علاج جرحى الحرب كأولوية.
وأفاد ممثل منظمة الصحة العالمية الدكتور أحمد شادول، أن المنظمة وفرت أدوية لا توجد في السوق المحلية لنحو 4400 من مرضى الفشل الكلوي وزارعي الأعضاء، بينهم زارعو الكلى بما قيمته 2 مليون دولار قد تكفي لستة أشهر وفقا لما صرح به لـ”العربي الجديد”.
ويقيم رئيس قسم الصادر بمخازن برنامج الإمداد الدوائي بوزارة الصحة صادق الحميدي، استجابة الصليب الأحمر الدولي ومنظمة الصحة العالمية للنداءات اليمنية، واصفا إياها بـ”الجزئية”، إذ زودا البرنامج في يونيو/حزيران ويوليو/تموز 2015 ويناير/كانون الثاني ومارس/آذار 2016، بكميات محدودة من أدوية تثبيط المناعة (سيليسبت، نيورال، بروجراف) تكفي جميعها لثلاثة أشهر فقط. وهو ما يؤكده أيضاً مدير المشتريات والمخازن سمير الحناني قائلاً: “نصيب زارعي الكلى يكفي لثلاثة أشهر والبقية لزارعي أعضاء (القلب والكبد) ومستلزمات لمراكز الفشل الكلوي”.
ويشير تصنيف المرضى حسب سنوات الزراعة، وفقا لبيانات توثيق المرضى لدى جمعية الرحمة الاجتماعية، (المؤسسة الأهلية الوحيدة لزارعي الكلى) إلى أن عدد زارعي الكلى في العام 2011 بلغ 118 حالة، وفي العام 2012 وصل إلى 148 حالة، وارتفع العام 2013 إلى 149 حالة.
واستناداً لرصد نفذته الجمعية منذ العام 2007 حتى مطلع 2014، فإن الزيادة السنوية لعدد المرضى الذين يستخدمون علاجات تثبيط المناعة، وصل إلى 14% سنوياً، فيما استقر الرقم الإجمالي لزارعي الكلى في 2015 عند 1700 مواطن زرع الكلى.
نافذة الدواء الوحيدة موصدة
تعد الصيدلية المركزية بالمستشفى الجمهوري بصنعاء، النافذة الوحيدة لصرف الدواء لــ نحو 1700 زارع كلى على مستوى الجمهورية، عقب توقف مركز الكلى بمستشفى الثورة عن إعطاء الدواء لــ 198 حالة زرعوا الكلى به، بعد أن توقفت الميزانية المخصصة للدواء من وزارة المالية بسبب الحرب.
وليد سيف، دكتور صيدلي ومسؤول صرف أدوية تثبيط المناعة بالصيدلية المركزية، يقارن الكميات التي كانت تصلهم قبل الحرب بما بعدها، ويؤكد: “الكميات التي وصلتنا من برنامج الإمداد الدوائي (سيليسبت ونيورال)، قدمتها منظمات دولية، تكفي لثلاثة أشهر، بينما البروجراف والرابميون انقطعا تماماً منذ اندلاع الحرب، في ظل عدم وجود بديل محلي.
بالمقابل تكافح جمعية الرحمة الاجتماعية لزارعي الكلى، من أجل توفير أدوية زارعي الكلى عبر فاعلي خير وشركات، لكن الكميات التي تحصل عليها لا تكفي إلا لأسابيع، وفق أمين محرم، رئيس الجمعية.
ويتهم محرم وزارة الصحة بالتقصير، لأنها على حد قوله لا توقع عقوداً طويلة الأجل تلزم الشركات الموردة بتوفير الدواء لفترات طويلة. غير أن نائب مدير برنامج الإمداد الدوائي بوزارة الصحة العامة والسكان علي المنصور يبرر التقصير ويقول: “البرنامج الجهة الوحيدة المسؤولة عن توفير أدوية زارعي الكلى ومنذ منتصف 2014 نحن بلا ميزانية، ومنظمة الصحة العالمية والصليب الأحمر الدولي قدمتا تعهدات بالدعم ولم تفيا إلا بـ 15% منها خلال العام 2015 ومطلع 2016. فيما يضطر المرضى إلى البحث عن الدواء في السوق بأسعار مرتفعة”.
هيئة الدواء تشكو
بعد خمسة أشهر من التقصي، توصل معد التحقيق إلى أن شح الموارد الذي أثر على موازنة الدولة، ليس السبب الوحيد لمعاناة زارعي الكلى. فطبقاً لرئيس الهيئة العليا للأدوية الدكتور محمد المداني، فإن السوق الدوائية تعتمد بنسبة 85% من احتياجها على الاستيراد و15 % إنتاج محلي بشكل عام، في الوقت الذي لا تصنع فيه الأدوية المنقذة للحياة محلياً.
ويقول المداني: “هناك صعوبات تواجه الاستيراد أبرزها قصف ميناء الحديدة التجاري الذي يستقبل أكثر شحنات الدواء، وامتناع معظم شركات النقل عن الشحن إلى اليمن بسبب الوضع الأمني وحاجة الدواء لحاويات مبردة”.
مقارنة لحجم استيراد الأدوية بين عامي 2014-2015 بالريال (الدولار يساوي 250 ريال يمني
واستنادا إلى تقرير “الوضع الدوائي في اليمن” (مارس/آذار- ديسمبر/كانون الأول 2015) الذي أعدته الهيئة العليا للأدوية، فإن عدداً من شركات الأدوية المصدرة والمستوردة، قامت برفع أسعارها بنسبة تتراوح ما بين 10-30 %. وبين التقرير أن الشركات ترجع ارتفاع أسعار الدواء إلى زيادة تكلفة التأمين والشحن، التي وصلت إلى خمسة أضعاف بعد الحرب، إلى جانب زيادة أسعار المشتقات النفطية التي وصلت إلى 100%.
المدير العام للغرفة التجارية خالد علي، يؤكد ما ذهبت إليه الهيئة العليا للأدوية بخصوص أجور النقل، مبيناً أن أجور نقل الحاوية الواحدة من ميناء الحديدة إلى صنعاء ارتفعت من 280 ألف ريال (1120 دولارا)، إلى مليون و400 ألف ريال (5600 دولار).
والحال ذاته مع أجور الشحن من خارج اليمن، إذ إن تكلفة نقل الحاوية الواحدة 40 قدما من مصر خلال الحرب، ارتفعت من 1300 دولار إلى 2400 دولار، وفق مدير مؤسسة زنجبيلة للأدوية مازن زنجبيلة.
الصحة تهدد
ظهرت وزارة الصحة العامة والسكان، في اليمن، عاجزة أمام آلاف المرضى، الذين يطرقون يومياً مخازنها الخاوية على عروشها من أدوية البقاء على قيد الحياة، كالأدوية المناعية.
ويتهم وكيل وزارة الصحة لقطاع الطب العلاجي، الدكتور ناصر العرجلي، القائمين على وزارة المالية بغض الطرف عن المشكلة، مقابل اهتمامهم بجوانب ليست ضرورية إطلاقاً، فيما لا تستطيع وزارة الصحة فعل شيء حيال المشكلة.
وهدد العرجلي بتوجيه المرضى إلى وزارة المالية، احتجاجاً على عدم توفير أدويتهم المنقذة للحياة في حال عدم الاستجابة. لكن خيبة الأمل تتزايد في أوساط المعنيين بوزارة الصحة، لأن مطاف تلك التهديدات، انتهى ببث قطاع الطب العلاجي التابع لوزارة الصحة رسالة (S.M.S) للمواطنين تقول: “دعمكم لأدوية الأمراض المزمنة، إحياء للنفس، للتبرع إلى حساب رقم (100811061) لدى البنك المركزي”.
المالية: عجز تام
يعاني اليمن من ضائقة مالية غير مسبوقة، نتيجة لانكماش الموارد، واستمرار الحرب، التي تدور رحاها في مناطق عدة من البلاد منذ عام وستة أشهر. وتعترف وزارة المالية في الوقت ذاته، على لسان المدير العام للموازنة بالوزارة محمد الشرفي، أنها تعاني من شح شديد في الموارد.
ويقول الشرفي: “توقف كلياً تصدير النفط والغاز اللذين كانا يشكلان 65% من إيرادات الدولة، إلى جانب انكماش إيرادات الضرائب والجمارك، وانقطاع القروض والمساعدات التي تراجع حجم المسحوب منها في العام 2015 إلى 63.26 مليون دولار مقارنة بـــ 544.20 مليون دولار في العام 2014 أي بنقص 480.64 مليون دولار عما كان عليه الحال قبل الحرب. حسب تقرير قطاع المساعدات الخارجية بوزارة المالية الصادر في 26 يونيو/حزيران 2016.
وزارة المالية، وفقا لتأكيدات الشرفي، أصدرت تعزيزات مالية بموازنة برنامج الإمداد الدوائي للعام 2015، كاملة لكن البنك المركزي رد بالاعتذار لعدم وجود سيولة، وما تم صرفه للبرنامج خلال العام ذاته (2 مليون و790 ألف دولار) لمواجهة مديونية سابقة للشركات الموردة للدواء.. كما رُصدت ذات موازنة البرنامج للعام الجاري 2016 لكنها لم تصرف نهائياً.
موازنة برنامج الإمداد الدوائي لأربعة أعوام (الدولار = 250 ريال).
لمصدر: وزارة المالية/الإدارة العامة للموازنة
ويؤكد الوكيل المساعد لقطاع الموازنة بوزارة المالية علي جبران الشماحي، في دراسة أعدها في مايو/أيار 2016، بعنوان “الخطة النقدية (الصعوبات والمشاكل) أن “الإيرادات العامة للدولة هوت من (2 تريليون و293 مليار ريال) عام 2014، (10 مليارات و655 مليون دولار) إلى (تريليون و62 مليارا و700 مليون ريال) (4 مليارات و642 مليون دولار) عام 2015، في أعلى نسبة انخفاض تسجله الموازنة العامة منذ سنوات، بعد توقف المنح والقروض، وتصدير النفط والغاز منذ نهاية مارس/آذار 2015.
“وفي ظل الانكماش الذي صاحب مصادر التمويل غير التضخمية في عام 2015، عجز البنك المركزي عن صرف مخصصات الجهات الحكومية من النفقات التشغيلية ومخصصات الدواء، واكتفى بصرف الرواتب التي تلتهم ما نسبته (93%) من إجمالي الإيرادات الذاتية المركزية حسب دراسة الشماحي.
ويرد الخبير الاقتصادي أحمد سعيد شماخ، معضلة الموازنة إلى أن اليمن باتت مكبلة بالديون التي تجاوزت 24 مليار دولار، منها أكثر من سبعة مليارات دولار ديونا خارجية.
في ظل استمرار الحرب، وعجز وزارتي المالية والصحة، عن توفير مخصصات مالية لاستيراد أدوية زارعي الكلى تتفاقم الأزمة وترتفع نسب وفيات المرضى الذين يصارعون المرض لأجل الحياة ويعيشون عذابات انقطاع الدواء المجاني.
تم إعداد التحقيق بدعم من شبكة (أريج)”إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية”..وبإشراف الزميل خالد الهروجي