ناصيف ياسين*
منذ أنْ كرّست الولاياتُ المتحدة مفهومَها القائل بأنّ ” مجالَها الحيويّ ” هو الكرةُ الأرضيّةُ بِبَرّها وبحرِها وسمائها ، لم يعُدْ لديها ما يُقنِعُها بالتغاضي عمّا يدورُ في أيّ بقعةٍ من بقاع العالَم ، إلّا إذا أُجبِرَتْ على ذلك بقوة الأمر الواقع .
ها هي الإدارة الأمريكيةُ الحاليّة ، تبذلُ كلّ ما في وسعها ، في آخر أيام سُلطتِها ، حتى الإنتخابات الرئاسية القادمة ، كي تُمهّدَ المسرح العربيّ لِمن سيأتي بعدها ، مُمَنّيةً النفسَ بفوز الحزب الديمقراطيّ ليُكمِلَ نهجَها . وهي تُبَرمجُ خطواتِها ، بِتأنٍّ مدروسٍ ، علّها بذلك ، تصلُ إلى مُبتغاها ، بعد تطوّراتٍ متداخلةٍ، واجهتها بِعٍدّة أساليب ، مُجْمَلُها :
– بعد دخولٍ روسيا ، عسكريًّا ، وبشكلٍ فاعلٍ على الأرض السورية ، لِدَعم الجيش العربيّ السوريّ وحلفائه ، وبداية التغيير الفعليّ في موازين القوى لصالح دمشق وحلفائها ، لجأت واشنطن إلى” خدعة ” الهدنة المغطّاة بعباءة ” الإنسانية ” مثلما حصل في حلب ، حيث أعادت عصاباتُ الإرهاب ترتيبَ أوضاعها ، ثم تغلغلت في مناطقَ عِدّةٍ جنوبَ المدينة ، وهو ما كلّف الجيش العربي السوريّ وحلفاءه أعدادًا من الشهداء لاسترجاعها .
– عمدت إلى لعبة التضليل والتفريق ” الصُّوَرِيّ ” ، باعتبارها ” داعش ” ثمّ ” النُّصرة ” – وتحت الضغط الروسيّ – إرهابيَّتَيْن . إلّا أنها ، في واقع الأمر ، بقيت تستغلّ وجودَهما للمناورة ، مثلما تفعلُ – الآن – في شرق حلب لتُؤَخّر حسمَ المعركة ، بانتظار تبدّل الظروف ، مثلما سبَقَ وفعلت ذلك مُتَعَمّدةً ، لشهورٍ في تأخير معركة تحرير المواصل ، بذرائعَ شتّى ، ريثما تنضج ” طبخة تقسيمها ” لمصلحة فرقائها – الصّغار – التابعين لها ولحلفائها : الأتراك والسعوديين والأكراد .
– وضعت خطة ” تحرير الموصل ” على هواها ، وفرض الحصار عليها من ثلاثِ جهاتٍ مقصودةِ الإنتقاء : شمالًا وشرقًا وجنوبًا – مع جوقة تحريضٍ إعلاميّةٍ تخويفيّةٍ من الحشد الشعبي لتحجيمِ أثره – و إفساحِ المجالِ لعصابات ” داعش ” بالإنسحاب ، غربًا ، نحو سوريا : في الرّقّة ودير االزور ، بعدما كانت قد حضّرت تلك المنطقة السورية ، بقصف جسر الفرات ، تمهيدًا لتوزيع العصابات الفارّة القادمة من العراق ، بين شمال الفرات : في الرّقّة ، التي يُمكن أن تكون هدف الجيش السوري وحلفائه ، بعد حلب ، وجنوبه ، في دير الزور حيث توجدُ منطقةٌ حاضنةٌ لتلك العصابات ، وكي يكونَ المجالُ أمامها مفتوحًا – في حال الهجوم عليها – باتّجاه الحدود الأردنية من جهة ، ومنطقة تدمر من جهةٍ أخرى حيث التواجد السوريّ / الروسيّ هناك ، لمشاغلتها أطول فترةٍ مُمكنة في رمال الصحراء ، وإعادة مهاجمة مناطق العراق الغربية بالتواتُر ؟!
هذه التوليفات الأمريكية المُخادِعة ، ما بين ” هدناتٍ ” ونسفِ جسورٍ في سوريا ، وضرباتٍ للجيش السوريّ بادّعاء ” الخطأ ” في دير الزور ، مع تأخيرٍ مُتعَمّدٍ في التحضير لتحرير الموصل ، تكشف نوايا الإدارة الأمريكية لتكرارِ إذاقةِ روسيا مُرّ هزيمتها في أفغانستان أيام الإتحاد السوفياتي ، وتجعل من المنطقة العربية فسيفساء ” إماراتٍ للطوائف والمذاهب ” تتوسّطها ” إمارة داعش المتصهينة ” الممتدة بين سوريا والعراق ، المتناغمة بالتواصل مع النظام الأردنيّ ، والانسجام مع ” الشريط الأمنيّ ” في الجنوب السوريّ الذي تُحضّره ” أسرائيل” في منطقة درعا وجوارها مع الجولان المحتلّ ، بالتوازي مع ” دُويلة ” الأكراد و المقاطعات ” الدّوَيلاتيّة الأخرى ” في العراق ، مع ما يعنيهِ اقتطاعُ تركيّا للشمال : في سوريا وبعشيقة في شمال غرب العراق ومنطقة نينوى .
بهذا ، تكون أمريكا – حسب مخطّطها – قد عملت لِضَرب روسيا وسوريا والعراق ، وحصر المقاومة الإسلامية في لبنان لظرفٍ آخر … فيُصبح الحلف الصهيو / أمريكي ومَن معه ، مُطلَقَ اليدين في المنطقة … لكن : ما كلّ ما تتمنّاه أمريكا تحصل عليه . وتجاربها في مواجهة إرادات الشعوب شاهدةٌ على هزائم مخطّطاتها حينما تستيقظ الأمم على أيدي قادةٍ أوفياء، التي يُصبح النصرُ حليفها في آخر المطاف : ومن هنا كوّةُ الأمل ؟!!
- كاتب لبناني