محمد عايش/
أولاً: أن المسألة كلها عملية استباقية، فبعد عملية استهداف البارجة الإماراتية، التي مثلت تطورا خطيرا في مسار الحرب على اليمن، وفي مستوى تطور القدرات القتالية للجانب اليمني؛ وجد البنتاغون أن بوارجه وسفنه الحربية المنتشرة في نفس المياه باتت تحت طائلة خطر ممكن ومحتمل جداً.
فالحوثيون يعتبرون أمريكا، في مجمل خطابهم، شريكة في الحرب، بل يعتبرون الحرب حرب أمريكا بدرجة رئيسة، ولذلك لا شيء، نظرياً، سيمنعهم عن الإقدام على استهداف القطع البحرية الأمريكية إن واتتهم الفرصة لذلك، فاليوم الإمارات وغداً أمريكا.
هكذا على الأرجح فكر البنتاغون، وتلقائياً سيبني على تفكيره هذا تقديرا لحجم الخسائر بشريا ومادياً في حال تلقيه ضربةً لأي من سفنه؛ وتجنبا لتلك الخسائر المُحتملة، وحمايةً، بشكل أعم، لأمن تواجده البحري، من الطبيعي أن يفكر باستباقٍ من نوعٍ ما وبغايات تحذيرية صرفة، ولأنه ليس ممكناً الوصول مع الحوثيين إلى تفاهمات مباشرة، أو عبر وسيط، تتيح الاطلاع على نواياهم بشأن القطع الأمريكية، أو تضمن التزامهم بتحييد أمريكا في البحر؛ فلا حل إلا عملية عسكرية محدودة، أوفلتكن حتى عملية “سينمائية”، مهمتها الوصول بكامل الرسالة التحذيرية واضحةً إلى المعنيين في اليمن.
لا شيء يؤكد أنه تم استهداف بارجة أمريكية، ولم تعلن ذلك إلا أمريكا وحدها، ولو كان الحوثيون قد استهدفوا بارجة لكانوا قد أعلنوا فور الاستهداف مباشرة، كما هي عادتهم في كل عملياتهم، لكنهم إضافة لعدم إعلانهم بادروا إلى النفي.
إن مجرد نفي الحوثيين، الذي قرأه كثيرون على أنه ناتج عن عدم رغبتهم في الصدام المباشر مع أمريكا، هو دليل إضافي على عدم حدوث الواقعة، فمن يرغب في تجنب أمريكا لن يقدم من الأساس على عملٍ ضدها يضطر لاحقاً لنفيه.
ومثلما أن استهداف البارجة أمر مشكوك فيه فإن الضربات الأمريكية الانتقامية مشكوك في حدوثها أيضاً، حيث أن من أعلن عنها هم الأمريكيون فقط، الطرف اليمني لم يعلن عن حدوث الضربات وما كان ليفوت ذلك ولو في سياق الإدانة والتنديد فحسب، أو لاستخدامها كدليل آخر من جملة الأدلة التي يستخدمها دوما لإثبات التورط الأمريكي في الحرب.
لا طرف ثالث أيضاً، ولا شهود عيان، ذكروا أي شيء عن ضربات استهدفت رادارات بحرية.
العملية برمتها كما يبدو تمت في الإعلام، وعلى منصة الناطق باسم البنتاجون فقط. وذلك ممكن جدا لأن الضربات تبدو، وفقاً لهذا الإخراج السينمائي، كما لو كانت قد حدثت بالفعل، إذ لو كان الطرف اليمني يريد التصعيد مع أمريكا لاكتفى بمجرد الإعلان الأمريكي عن الضربات ليبني على ذلك رد فعل.
في فيلم بديع للغاية، وهام جدا بما يقدمه من مفاتيح لفهم عمل السياسة والميديا معاً في أمريكا، واسمه “wag the Dog”، يقوم “روبرت دي نيرو” الذي يلعب دور مستشارٍ سري للرئيس الأمريكي؛ يقوم، مستعينا بمنتج سينمائي، باختلاق حرب كاملة في “ألبانيا” بهدف إلهاء الرأي العام الأمريكي عن فضيحة أخلاقية للرئيس.
لم تكن هناك أية حرب في الواقع، فقط في وسائل الإعلام، لكن الأمريكيين انخرطوا عن بكرة أبيهم في حالة تعبئة عالية دعما لجيشهم، وحين قرر المستشار الرئاسي أن الوقت قد حان لإيقاف حربه المتخيلة أوقفها فوراً فتوقفت في كل وسائل الإعلام، لكنه اكتشف أن توقيت الإيقاف لم يكن مناسبا، فالانتخابات لم تكن قد جرت بعد، وقد عاد منافسو الرئيس للحديث عن الفضيحة الرئاسية مجدداً، وكان الحل أن يختلق معركة على ذيول الحرب نفسها، حيث ألف، مع صديقه المنتج السينمائي، قصة جندي أسير لايزال في يد الأعداء في ألبانيا، وهكذا انخرط الشعب الأمريكي مجددا وبحماس أعلى، في مناصرة الجندي والانشغال به وبقضيته ليل نهار.
التحليل الثاني: أنها عملية للبنتاغون هدفها الضغط على إدارة أوباما أكثر من أي شيء آخر.
فبعد الجريمة السعودبة في القاعة الكبرى أعلن البيت الأبيض موقفا حادا تجاه المملكة أعلن فيه أنه سيبدأ بمراجعة “الدعم المحدود” لحربها في اليمن، ويعني تحديدا أنه سيوقف بيع الأسلحة للرياض.
إجمالي قيمة مشتريات المملكة من السلاح الأمريكي خلال عام ٢٠١٥ فقط بلغ ٣٠ مليار دولار. ومبلغ ضخم كهذا سيجعل شركات تصنيع السلاح، النافذة جدا داخل البنتاغون والمجتمع العسكري عموماً؛ تفقد عقلها إزاء النوايا المعلنة لأوباما في حرمانها من هذا المورد الضخم عبر إيقاف بيع السلاح للملكة.
٣٠ مليار دولار، تستأهل إعلان حرب من أجلها، وليس مجرد عملية عسكرية محدودة.
وكأن البنتاغون يقول لأوباما: إذا كان هدفك بإيقاف صفقات السلاح مع الرياض التخفيف من تورط أمريكا “غير المباشر” في الحرب السعودية؛ فإن بيدنا أن نعمق ورطتك أكثر بشن عمليات “مباشرة”.
البيت الأبيض لم يدل بأي إدلاء بشأن قصة البارجة والرد عليها، وكل الإدلاءات جاءت من طرف البنتاغون، بما في ذلك القول إن العمليات الانتقامية أذن بها الرئيس أوباما.
وبعد ذلك أعلن البنتاغون أن العملية لا علاقة لها بالصراع الأوسع الدائر في اليمن، مجددا دعوة أوباما لأطراف الصراع إلى وقف إطلاق النار!
للوقوف على حجم التباينات، والصراعات الحادة، بين البنتاغون والبيت الأبيض في ما يخص التدخلات الخارجية، أفضل ما يمكن قراءته هو التقرير الموسع الذي كتبه الصحفي الأمريكي المرموق سيمور هرش، عن الصراع بين الطرفين فيما يخص سوريا.
الحالة هنا مشابهة جداً.