تأخرتُ في الوصول إلى القاعة لتوجهي لعرسٍ قبلها فسبقني الولدان الصالحان أحمد ويوسف وعند وصولي ومن معي رأينا دخاناً يتصاعد فوقها فتوقعنا أن الطائرات التي سمعناها قصفت خلفها واستبعدنا أن يكون القصف فيها ، وبينما أتهيأ لإيقاف السيارة جوارها إذا بالسيارة تهتز بعنف فقد سقط صاروخٌ آخر ، وإذا بالناس يتدافعون ليبتعدوا عن الصالة تحسّباً مِن صواريخ أُخرى فلزمت مكاني فلا يُمكن أن أغادر وأولادي وأهلي وأنسابي بالداخل ، وبدأت بالتواصل مع ولديّ أحمد ويوسف فكانت هواتفهما مُغلقة فازداد قلقي عليهما ، وبدأت بالاتصال ببقية أهلي واحداً تلو آخر وعلمتُ أنهم خرجوا بأعجوبة وأنهم بخير ، لكن لا أحد منهم يعرف شيئاً عن أولادي ، بعد دقائق اتصل بي أخي جلال الرويشان يطمئنني أنه بخير وأنه متجه للمستشفى وكان لا يعرف شيئاً عن أولادي ، وكذلك كان أصدقاؤهم لا يعرفون عنهم شيئا ، .. فأصبحت اسأل الناجين هل رأيتم شهداء فأكّدوا لي أن الوضع بالداخل كارثياً وأن الجُثث المُتفحمة والمتجزئة بالعشرات إن لم تكن بالمئات ، وأنّهم رآوهما داخل القاعة وكانا جوار بعضهما ولكن لم يروهما يخرجان ، عندها وصل قلقي منتهاه وتوجهت إلى الله أن يلطف بضعفي وأن يُرضيني بقضائه وقدره .
في هذه اللحظات لم تتوقف تلفوناتي عن الرنين من أصدقاء وزملاء وأقارب وجميعهم يتصلون للاطمئنان علينا ، ومع مشاعر الامتنان التي كانت تتملّكني حيالهم حتى أنّ بعض الاتصالات جعلتني أدمع من التأثر ومع ذلك لم أكن في حالٍ تسمح بالرد عليهم فكلّي قلق على الولدين وبقيّة المفقودين من الأهل والأنساب غير أنّي كنتُ أردّ على الاتصالات عسى أن يحمل أحدُها أي جديد ، ولكن للأسف لم يحدُث ، عندها لم أجد مبرراً لبقائي جوار الصالة فجميع من أخبرونا أنهم نجوا قد غادروا المكان الجميع .، فغادرتُ إلى بيتي وفي نيتي ألا أخبر زوجتي بأن ولديّ مفقودان حتى نجدهما ، لكني حين وصلتُ كان والد الحارس قد أبلغهم بما حدث فابنه كان هناك ، لذلك وجدت زوجتي محمولة بين ابنتي وزوجة ابني مُنهارةً باكيةً لا تقوى على الوقوف وتسأل عن ولديها ، والمؤسف أنه ليس عندي جواب ، هدأتُها ومن معها في البيت وواصلتُ استقبال الاتصالات عسى أن أجد بصيص أمل أنهما بخير .
مرّت الدقائق ثقيلةً ، وبمضي الوقتُ كان توجسي يزداد بأنهما قد استشهدا ، سلمتُ أمري لله وبدأت بتهيئة من في البيت لأسوأ الاحتمالات ، فبدأت بطرق ذلك على مسامع أمهما التي أعلم إيمانها حتى أعينها على تقبل الأمر فكنت أقول لمن يبحثون عنهما أن يتفقدوا وجودهما بين الجرحى أو الشُهداء وأرقبُ أثر كلماتي على والدتهما فكنتُ أرى الرعب مرسوماً على وجهها ، وكذلك على وجه زوجة ابني الأكبر التي مرّت بوضعٍ مُشابه حين استشهد والدها القاضي عبدالإله الكبسي وأخوها حسين رحمهما الله في جريمة مسجد بدر فلم نجدهما إلّا بعد ساعاتٍ طويلة ، وبمرور الوقت بدأ الأمل بوجودهما أحياء يتناقص وإذا بأحد أنسابي يتصل بي ويقول لي عظم الله أجرك يا دكتور .
حمدتُ الله وشكرته واسترجعتُ فإذا بالمُتّصل يقول “عظم الله أجرك بوفاة الوالد علي الرويشان” ، فهو لم يعلم بالجريمة الكُبرى بعد ، فتجدّد الأمل مِن جديد .. لم تمضي دقائق حتى وصلتني البُشرى من أحد شباب الأسرة أنّه وجدهما وأنّهما بخير لكنّ يُوسف مُصاب بكسر في رجله ، فحمدتُ الله الذي كتب لهما النجاة .. وقد كان سبب تأخيرهما داخل الصالة أن أحمد وهو يحمل أخاه رأى جرحى آخرين عاجزين عن الحركة والنيران تقترب منهم فوضع أخاه جانباً وبدأ في انقاذهم حتى وصل المُسعفون فعاد لحمل أخيه والخروج به .. وبعد اطمئناني عليهما بدأنا في التأكد من كل واحد من الأسرة والأنساب فوجدنا الجميع باستثناء الشهيد الذي لم نجده إلى في وقت متأخر جدا وسأتحدثُ عنه في منشور مستقل .
هذه مشاعري أثناء البحث عن أولادي وقد نجّاهما الله بمنّه وكرمه ، فكم قصة عاشها الآلاف من أقارب الشُهداء والجرحى ولازال بعضهم يعيشون فُصولها حتى هذه الساعة فعشرات الجُثث المُتفحّمة أوالتي أصبحت دون رأس تملأ المُستشفيات ، لا أعلم كم قصة حدثت وتحدث لكن ما اعلمه أن القتلة لن يمرّوا بفعلتهم ؟! وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ (الصورة عصر اليوم عند رؤيتي ليوسف ابني لأول مرّة بعد الجريمة الكبرى في القاعة الكبرى)