د. عبد العزيز المقالح*
ما يزال هناك من يتحدث عن الربيع العربي، وكأنه لم يغادر الساحة العربية بعد، أو كأنه أصبح جزءاً لا يتجزأ من واقع هذه الأمة المغدورة التي لم تعرف في حاضرها ربيعاً واحداً، وكانت وستبقى تحلم بربيع سياسي واجتماعي وديمقراطي، يعيد إليها التضامن والوفاق ويحملها من حالة التخبط والارتجال والاقتتال إلى ما تمنته وحلُمت بتحقيقه.
لقد قيل الكثير الكثير عن الربيع المأسوف عليه، وكنتُ واحداً ممن أدلوا بدلوهم في هذا المجال، ومما قلته وكتبته أن الربيع العربي سبق موعده، وكان أشبه بسنابل الذرة البيضاء التي سبقت أوانها فأكلتها الطيور، لذلك لم يكن ربيعاً ولا صيفاً ولا شتاءً، كان فصلاً خارج كل الفصول، وجملة اعتراضية في كتاب الواقع العربي المليء بالتناقضات والصراعات المكشوفة والدفينة، وإن كان قد ترك في بعض الأقطار العربية جروحاً وفتح الباب على مصراعيه لصراعات وانقسامات وحروب قد يطول زمنها إلى أن يسترجع العقل العربي عافيته ويخرج من غيبوبته. وما كان لهذا الذي حدث أن يحدث لولا ذلك الربيع السابق لأوانه، ورغم أنه قد كشف للأمة العربية ما كان يحتقن في كيانها المعتل من آثار الاحتلال ورواسبه الخطيرة وما زرعه من ألغام سريعة التفجير وأخرى بطيئة، غير الكمائن التي تتحين الفرص لكي تخرج إلى العلن وتضرب ضربتها وتعيد الأمة إلى ما قبل الاستقلال بقرون.
ويمكن القول، إن التعتيمات التي تتناول الربيع العربي السابق لأوانه وآثاره الراهنة تبدو جائزة وممكنة إلا إساءة الظن بشباب الربيع أو التشكيك في نواياهم، فقد كانوا مدفوعين بثورة الشباب وحماسته وما وعته ودعت إليه ثقافتهم من قيم العدالة والحرية وما ترسب في أذهانهم من صور الطغيان والاستبداد والجوع والبؤس والحرمان الذي تعاني منه الغالبية. وما كان يتم رسمه من قرارات وإجراءات عملية لإفقاد هذه الأغلبية حقها في الحياة الكريمة وفي السخرية من إنسانيتها وآدميتها، كان شباب الربيع ينطلقون من هذا الشعور النبيل، ولكن دون تجربة ولا دراية تتجسد معهما هذه الأمنيات وتلك الأحلام، وكان عليهم، إن لم يكونوا كلهم من خريجي الجامعات الذين لم يجدوا عملاً ولا أملاً، وواصلوا حياتهم بعد التخرج ليكونوا عالة على أسرهم الفقيرة التي كانت تنتظر أن يسهموا في التخفيف من معاناتها والانتقال بها من حال البؤس والشقاء.
لقد نزل الشباب إلى الساحات ملتزماً بمعايير أخلاقية ووطنية، لكن آخرين ممن رافقوهم إليها لم يكن لهم أي معايير أو أهداف موضوعية لها صلة بالمستقبل، كانوا مدفوعين لإثارة الفوضى والانحراف بمسيرة الشباب وبمسعاهم النبيل إلى مواقف أخرى. ولم يعد هناك من شيء خاف أو غامض بعد أن تم نزع الأقنعة وبدت الوجوه سافرة والأمور في صيغتها الراهنة الرهيبة على درجة عالية من الوضوح. اقتتال مباشر أو مستتر في أكثر من قطر عربي ومناداة علنية إلى تفكيك المفكك وتفتيت المفتت. وصار الجميع من هؤلاء وهؤلاء يتحدثون عن “سايكس بيكو” جديدة بعد أن مر ما يقرب من القرن على “سايكس بيكو” الأولى واستكمال تجزئة الوطن العربي إلى دويلات “أميبية” لا تُرى إلاّ بالمجهر.
*من صفحته بالفيس بوك