د. صادق القاضي
إذا كان الحديث عن مستقبل النظام السعودي طافحاً بكثير من علامات الاستفهام، فإن استمرار هذا النظام حتى الآن متخمٌ بكثير من علامات التعجب، ومن بين كثير من العوامل الداخلية والخارجية المهمة التي يعلل بها المراقبون والخبراء لبقاء الأنظمة الخليجية القرسطية إلى مطلع الألفية الثالثة، يمكن القول: إن النظام السعودي بالخصوص يعتمد بشكل حاسم في بقائه واستمراره على عاملين جوهريين حاسمين، داخلي وخارجي:
– العقيدة الوهابية.
– التحالف الاستراتيجي العريق مع الولايات المتحدة، والغرب عموما.
يعني هذا أن أيّ إشكالية لهذا النظام، مع أيٍّ من هذين العاملين، هي بمثابة تهديد وجودي لبقائه واستمراره، بما يفتح الحديث عن مستقبل هذا النظام، في العادة، وخاصة في الأوساط الجادة، على رؤى، هي في معظمها، سوداوية، وتتجلى على وهج تنبؤاتها المتشائمة، تصورات متفاوتة القتامة بين انحسار النفوذ الإقليمي لهذا النظام، إلى سقوطه الوشيك، وتمزق الخارطة التقليدية للمملكة.!
..
أ-السعودية والمستقبل الوهابي:
الحديث عن مستقبل الوهابية حديث في العمق عن مستقبل النظام السعودي، ومستقبل دول المنطقة، خاصة وأن العلاقة الوجودية المصيرية التقليدية بينهما أنتجت وساهمت في إنتاج ظواهر محلية إقليمية ودولية مقلقة، أخطرها الإرهاب.
لم تعد، ولا يجب أن تظل علاقة الوهابية بالإرهاب مادة للاتهام والمناكفات الجدلية، في ظل كونها المرجعية الأولى والقاسم المشترك بين كل الجماعات الإرهابية الإسلامية المعاصرة، من طالبان إلى بوكو حرام، كما لا يجب أن تظل مادة للضغط على الأسرة السعودية الحاكمة، التي كما يرى كثيرون، باتت منذ سنوات في ورطة حقيقية بشراكتها الكاثيولوكية العريقة معها، وربما تفكر بالتحلل من هذه العلاقة بأي صيغة لا تؤدي إلى سقوط النظام خلال هذه المغامرة الخطرة.
في كتابه(“داعش”” .. من النجدي إلى البغدادي) قدم “فؤاد إبراهيم”، استقصاء تاريخيا دقيقا ومشوقا لجذور الحركات الإرهابية المعاصرة، لاسيما القاعدة و”داعش”، على جانبين:
١- الفكر والعقيدة: بدءا بمؤسس الحركة الوهابية محمد عبدالوهاب، وبيئة نجد، وصولا إلى “أبوبكر البغدادي”، وبخلاف الانطباع الذي يعكسه التواصل الفكري، بما يوحي بأن “داعش” هي الثمرة الأخيرة للشجرة الوهابية، يرى المؤلف أنها عودة إلى الجذور الأولى، وبعبارة المؤلف:(“داعش” في حقيقتها ليست شيئا سوى إحياء وهابية الجيل المؤسس.. أو السلالة النقية للجيل الوهابي المؤسس.)( ).
٢- السياسة والدولة: يبدأ المؤلف بمحمد بن سعود، واستغلاله للعقيدة الوهابية الجهادية، واندفاع أتباعها، لتوسيع مملكته، مرورا بخروج ” إخوان من أطاع الله” عن الطاعة أحيانا، وقيام ملوك آل سعود لإعادتهم إلى الطاعة، ربما بالقتال، وصولا إلى ظهور القاعدة، ثم “داعش” في العراق، وكسرها لاحتكار آل سعود لشرعية الدولة الإسلامية التي اكتسبتها وحكمت باسمها منذ البدء.
ينتهي الكتاب بوصول الجانبين، آل سعود، والوهابية، إلى نقطة حرجة قد تعني حتمية المواجهة، وفض الشراكة الوجودية بينهما، فوفق المعايير الوهابية الصارمة لدولة الخلافة الإسلامية، فإن خليفة “داعش” قرشي هاشمي ويطبق حدود الله ولا يعطل الجهاد.. بخلاف حكام آل سعود، ما يجعل دولة “داعش” أكثر تمثيلا للدولة الإسلامية، من الأسرة السعودية التي باتت فاقدة للشرعية حسب تلك المواصفات والمعايير.
على صعيد الواقع، هناك حالة اهتزاز للثقة بين العقائديين الوهابيين، وبين المرجعيات الوهابية الاعتبارية المقربة من الأسرة الحاكمة، كما أن الأسرة السعودية لم تعد ترتبط بأغلب الوهابيين إلا بالمال، كثير من رجال وأتباع الوهابية في السعودية يوالون “داعش”، ويقاتلون معها بالمال والنفس، بل حتى يرى بعضهم شرعية الجهاد داخل المملكة.. ضد آل سعود.
الكتاب في فصوله الأخيرة يعطي انطباعا بحجم ورطة النظام السعودي، بين التزاماته وتعهداته التاريخية تجاه الوهابية، وبين التزاماته كدولة أمام مواطنيه، وأمام المجتمع الدولي، وعلى الجانبين يستحيل أن يتجنب النظام السعودي المواجهة مع الوهابية، وعلى المستوى الدولي هناك قناعة دولية تتزايد باطراد حول حقيقة علاقة الوهابية بالإرهاب العالمي، باعتبارها القاسم المشترك بين كل الانتحاريين والجماعات الإرهابية، في موازاة ضغوط متزايدة على الأسرة الحاكمة لفض شراكته معها..
في الأخير، يجد المشهد المتوتر نفسه بين خيارين:
– تخلص الوهابية من الأسرة السعودية الحاكمة، وهو احتمال أكثر ورودا، وإن كان سيصب في صالح “داعش”..
– البديل الآخر هو تخلص الأسرة السعودية من الوهابية، وهو الخيار الأصعب، الوهابيون حاليا،مركز قوى متغول ومتغلغل في الدولة والمجتمع، ومتمكن من السلطة والمال والنفوذ، ما يجعل مواجهته مجازفة محفوفة بالكثير من المخاطر التي قد تزج بالجميع فيما يشبه التجربة الجزائرية.
في كل حال السعودية ظاهرة وهابية، لا العكس، حتى وإن كانت الجماعات الأصولية الوهابية، وبعض فصائل “داعش” أوراق ضغط وأسلحة سعودية لمحاربة الأنظمة الأخرى في المنطقة، إلا أن اللعبة الإرهابية خطرة، فسرعان ما ينقلب السحر على الساحر، كما حدث في أفغانستان بالنسبة لأمريكا، التي لا يمكن تبرئتها وغيرها من الأنظمة الغربية من صناعة “داعش”، وكان دعم المعارضة في سوريا هو “الرافعة الحقيقية لتأسيس هذه الدولة وتوسعها”( ).
..
ب-السعودية.. والحليف الأمريكي.
إذا كانت علاقة النظام السعودي بالوهابية قد بدأت تتصدع بدرجة ربما غير قابلة للتدارك، فإن علاقته بالحليف الأمريكي لم تعد هي الأخرى في أحسن حالاتها، بل يؤكد كثير من كبار رجال السياسة الأمريكية أن(شهر العسل السعودي الأمريكي قد انتهى).
يرى كثير من المراقبين، أن أحداث 11 سبتمبر 2001م، شكلت نقطة فارقة في تاريخ العلاقة الاستراتيجية العريقة بين النظام السعودي والأمريكي، حينها اقترح بعض رجال الإدارة الأمريكية، للقضاء على “الإرهاب” الذي هاجمهم في عقر دارهم، مهاجمة “الإرهاب” في عقر داره، بإسقاط النظام الوهابي في السعودية، بدلا من إسقاط نظام “طالبان” في أفغانستان، لأسباب موضوعية منها:
– أن معظم منفذي تفجيرات منهاتن، سعوديون، فمن ضمن “19” إرهابيا، هم مجموع من نفذوا التفجيرات، هناك “”15″سعوديا، و”2″ من الإمارات.
– أن نظام “طالبان”، مجرد صنيعة سعودية ستسقط بسقوطها؛ إذ تبنت السعودية عملية إنشاء هذا التنظيم منذ البدء، ولم يعترف بشرعيته من كل دول العالم إلا السعودية والإمارات وباكستان.
– أن “الإرهاب” ظاهرة وهابية، ومنظمة القاعدة، المسئول المباشر عن العملية، تشكلت على أسس الفكر والعقيدة الوهابية الحاكمة في السعودية.
كان هذا المقترح يعني بشكل ما اجتثاث “الإرهاب” من جذوره، وتجفيف منابعه، لكن أمريكا المتورطة أيضا في صناعة الإرهاب( )، تجاهلت، يومها، حقيقة أن “القاعدة” ظاهرة وهابية سعودية.!!
غير أن استفحال ظاهرة الإرهاب إقليميا ودوليا في الفترة اللاحقة، وظهور “”داعش”” واستيلائها على مساحات واسعة حساسة في الشرق الأوسط، والعمليات الإرهابية في الدول الغربية( ).. جعل الغرب عموما والأمريكيين بشكل خاص، يراجعون حساباتهم ومصالحهم على ضوء هذه التهديدات الإرهابية الكيفية والكمية المستجدة.
من جهة ثانية تضررت هذه العلاقة بعوامل أخرى بدءا بموقف أمريكا من أحداث ما سمي بالربيع العربي، ورغم سلبيات وتناقض المواقف الأمريكية خلال هذا الربيع، فقد كان تخلي واشنطن عن بعض الرؤساء العرب سببا كافيا للحنق الخليجي المبرر بقلق أمراء الخليج، من عدوى الانتفاضات الجماهيرية في بلدانهم ما يهدد بسقوط عروشهم القروسطية.
على صعيد ثالث، كان للاتفاق النووي بين إيران والغرب وقع سلبي لافت لدى دول الخليج، التي تعاملت مع الأمر بحساسية ووعي الضرائر، فاعتبرت صيغة الاتفاق الحاصلة انتصارا لإيران، ونظرت لانفتاح إيران على الغرب ورفع الحصار عنها، وتهدئة التوتر الحاصل بينهما، يتم على حسابها وفي مصلحة خصمها اللدود الذي قد يستحوذ على حظوتها التقليدية لدى الغرب.
من جهة رابعة، ونظرا للمتغيرات الكمية والكيفية في مجال الطاقة، ومستجدات سوق النفط، وتقنيات استخراجه واستخلاصه، لم يعد النفط الخليجي الذي كان يشكل الضامن الأساسي لعلاقة خليجية غربية مدللة، يحظى بأهميته التقليدية الحاسمة في الحسابات الغربية الحديثة، وهو ما صرح به كبار المسئولين الغربيين، على رأسهم الرئيس “أوباما” في مناسبات عدة أكد فيها أن النفط لم يعد هو الأهم في علاقة بلاده بدول المنطقة التي لم تعد تصدر النفط فقط، وإنما الإرهاب أيضا، ملمّحاً إلى نية بلاده بالتركيز في مجال الطاقة على بلدان أخرى في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية حيث المستقبل”( ).
وصولاً إلى فتح ملف مسئولية السعودية عن أحداث 11سبتمبر، وفي الواقع بات العالم على دراية متزايدة بعلاقة الوهابية بالإرهاب، وكلما حدثت عملية إرهابية في العالم الغربي بالخصوص، اتجهت أصابع الاتهام إلى السعودية، باعتبارها راعية الوهابية “القمقم النجدي” الذي خرجت منه كل شياطين الإرهاب في العالم. تأكيدا للمقولة المبكرة لـ “لوران مورافيتش” وهو من المحافظين الجدد الفرنسيين، والذي كتب عام 2002: “إن السعوديين ينشطون في مختلف مستويات الإرهاب، من المخططين الى الممولين، من الكوادر الى جنود المشاة، ومن المنظرين الى المصفقين”.
إن فتح أمريكا لملف مسئولية السعودية عن أحداث 11سبتمبر، وطرحه بشكل جاد أمام المؤسسات المعنية، بمثابة إشارة لا تخطئها العين إلى أن السعودية قد أصبحت عبئا على أمريكا، العبء الذي لم يستنكف كبار صناع السياسة الأمريكية، بدرجات متفاوتة من المكاشفة، عن التصريح بثقله ورغبة التخلص منه، وعلى رأس هؤلاء الرئيس الأمريكي “أوباما” الذي(وصل الأمر به إلى أن يصف المملكة بأنها ليست حليفًا حقيقيًا يمكن أن يُعتمد عليه، بل يرى -بحسب ما أورد جولدبرج- أن “ما يسمى بالحليف” هو كيان أناني لم يعد يقدم للولايات المتحدة أي شيء، سوى تمويل بعض وحدات التفكير والتخطيط الاستراتيجي التي تمارس ضغوطاً على صناع القرار الأمريكي، فقط لمصلحة الأسر الحاكمة في الخليج وليس أكثر)!.
(لا شك أن العلاقة الاستراتيجية بين البلدين تشهد توتراً غير مسبوق، ويرى العديد من المراقبين أنها قد تصل إلى قطيعة وشيكة) وهو ما عبر عنه أوباما في مناسبات أخرى، كما صرح به خلال العام الحالي المرشحين الأوفر حظاً لخلافته في البيت الأبيض، ما يعني أن العلاقة ” الاستثنائية التقليدية التاريخية” بين البلدين لم تعد اليوم استراتيجية كما كان عليه منذ ثمانية عقود.
«الأمر معقد»: حسب وصف الرئيس أوباما للعلاقة، في مقابلته مع مجلة “دي أتلانتيك”، والتي أتهم فيها السعودية بزعزعة أمن المنطقة، ونشر التطرف والتزمت والإرهاب على المستوى العالمي، وإفساد إسلام الدول المسلمة كـ”إندونيسيا”.
أصبحت هذه قناعة معظم النخبة السياسية الأمريكية تجاه السعودية( )، واكتفاء بآراء المتقدمين لخلافة أوباما في البيت الأبيض، أعلنت الديمقراطية “هيلاري كلينتون” تأييدها لمشروع قانون مساءلة المملكة عن غزوة منهاتن، وتقديم المملكة كمتهمة ومسئولة أمام القضاء الأمريكي.
بشكل أكثر حدة اتهم المرشح الديمقراطي الآخر “بيرني ساندرز″، العائلة السعودية الحاكمة بتمويل “الوهابية المتشددة التي فرّخت القاعدة و”داعش” وتنظيمات متطرفة.. خرجت كلها من رحم هذه الأيديولوجية الأصولية، مضيفاً: ” أعتقد، تماماً، أن المملكة السعودية تلعب دوراً خطيراً جداً في إثارة الأصولية في جميع أنحاء العالم”.
مرشحو الحزب الجمهوري أكثر حدة ومكاشفة، بدءا بـ”تيد كروز″ الذي عارض السياسة السعودية في إسقاط أنظمة المنطقة، وهو وإن كان يتحدث بدبلوماسية عن منابع الإرهاب الإسلامي، لكنه يحمل نفس الرأي المبدئي للمرشح الجمهوري الآخر والأكثر إثارة للجدل، “دونالد ترامب”..
هذا الأخير يرى بحق أن السعودية لا تستطيع البقاء إذا لم تقم الولايات المتحدة بحمايتها، وأن عليها دفع المال(الجزية) لأمريكا لقاء حمايتها من الزوال.. وصولا إلى تأكيد دورها في هجمات 11سبتمبر، مضيفاً بأسف: “لقد هاجمنا العراق، ونحن نعلم أنهم ليسوا من أسقط مركز التجارة العالمي.. كما لو أنه يقول: كان يجب أن نبدأ بالحرب على الإرهاب بإسقاط النظام السعودي.
ليس من المتوقع على المستوى القريب، أن تضع أمريكا السعودية في خندق معادٍ، أو قائمة سوداء مستهدفة، أو حتى أن تتخلى عنها بشكل حيادي، لكن الحظوة المطلقة لها لم تعد كما كانت، بل يرى الكثيرون هناك، أن الوضع السعودي الراهن بات يهدد المصالح الأمريكية( )، وهو ما يستوجب القيام بضغوط من أجل إصلاحات سياسية للنظام السعودي، وبحذر وبشكل تدريجي، في ظل قلق مبرر من استيلاء الجهاديين على السلطة حتى بطريقة ديمقراطية!.
..
في كل حال يظل بإمكان الأسرة الحاكمة، للحفاظ على نظامها واستمراريته، لأطول فترة ممكنة قادمة، المجازفة بفض الشراكة الاستراتيجية التاريخية في السلطة بينهما وبين الوهابية، قبل إعلان أمريكا عن فض الشراكة الاستراتيجية التاريخية بينهما.
كما أن عليها إعادة تقييم المخاطر والتهديدات والأولويات، المحلية والإقليمية والدولية، بشكل ربما مغاير تماما، وبما قد يعني من ضمن أشياء كثيرة، أنّ:
-خطر الوهابيين والقاعدة و”داعش” .. على أمن المملكة، أكبر من خطر الوجود الشيعي التقليدي في دول المنطقة.
-خطر أمريكا على مستقبل المملكة، قد يكون أكبر من خطر إيران.
– عدم الهروب من الاستحقاقات الداخلية إلى الأزمات والحروب الخارجية.
نقلا عن (راي اليوم)