نجــلاء حســـــــــــــــــن:
اليمن.. بلد متنوعة في كل أمر, ورغم صغر مساحتها نسبياٍ بما يَحدث تقارباٍ بين أطرافها وجهاتها الأربع, ما يوحي لمتأملها للوهلة الأولى بأنه لا بد من نسيج واحد يشمل المكان, وبذلك تكون العادات والتقاليد متوافقة والأعراف المجتمعية وكذا الفنون.هذا ما يعتقده الناظر البعيد للمشهد اليمني العام, لكن من يقترب محاولاٍ التعرف عليه يفاجأ بذلك التنوع والتمايز بين كل منطقة وأخرى.وإذا ما خصصنا الحديث هنا عن الفنون في اليمن, فإنه حديث لا ينتهي لأننا سنجد ألواناٍ من الفنون, تنفرد كل منها بطريقة أداء لا تتشابه واللون الآخر, ويساهم كل لون في نقل صورة خاصة عن التراث الفني اليمني.«الزامل» أحد أهم هذه الفنون, ونصفه بأهمها لأنه لسان حال الواقع الاجتماعي اليمني والمرآة التي تعكس صورة المجتمع, والفن الذي يترجم بمفرداته التفاصيل الحياتية الاجتماعية بكل انفعالاتها وقيمها الإنسانية.
العمر الزمني لفن الزامل غير محدد. لأن المصادر تكاد تخلو من إشارة لبداية نشوء هذا الفن, إلا أنها تذكر أن هشام بن عبد الملك قد أورد في كتاب «السيرة» معلومة عنه « محدداٍ بأنه وصل إلى الجزيرة العربية عبر اليمن خلال 200 سنة قبل الهجرة الإسلامية. ويضيف:»وقد تكون دونت أشعاره على الجلود والأحجار», لكن في الغالب يعبر عن فن الزامل بأنه الأطول عمراٍ بين الفنون الأدبية الأخرى, بدون تحديد عدد سنوات ذلك العمر.
ويوصف الزامل بأنه أدب أساسه الرمز البلاغي الذكي والبناء اللغوي الخاص, حيث يعتمد نظم الزامل على اختصار كل الفكرة أو الموضوع في بيتين أو بضعة أبيات يجسد خلالها «المزمل» نوعاٍ من الصناعة الشعرية المتفوقة.
البنية اللغوية لفن الزامل تعتمد في الأساس على اللغة العامية, لذا نجد أن النتاج يكون ترجمة فلسفية وروحية للانفعالات الإنسانية بلغة وثقافة ذلك العصر. إلا أن هذه الترجمة ليس من السهولة صياغتها وتشكيلها كأي قالب شعري آخر, فالقصيدة مثلاٍ حرة في عدد أبياتها وتكتب دون شرط أو قيد حتى تصل إلى الهدف المنشود, بينما يكون الزامل مقصوراٍ على بيت أو اثنين, وهنا تكمن صعوبة صياغة النص الشعري, فترى «المزمل» يجتهد في انتقاء المفردات وصناعة الزامل.ولأن فن الزامل يبنى على ترقب الرد من الطرف الآخر, فإن الشاعر الأول يحاول سد المنافذ وتضييق مساحة الرد على نده باختيار الألفاظ الدقيقة بما يكفل إيصال الفكرة للطرف الآخر بأقل عدد من المفردات.وقد أكسبت هذه الصياغة الشعرية الخاصة بفن الزامل خصوصية ليس لها مثيل شعري وأدت إلى نشوء نوع خاص من الإبداع الفني لا يضاهيه إبداع شعري آخر, وجعلت الزامل الفن الأصعب شعرياٍ وأدبياٍ واكسبته خصوصية بامتياز.أعراف التحكيم التي كانت تجد في فن الزامل منطقاٍ أبرع في التعبير, فتجده في حالات كثيرة سبباٍ في إخماد فتن كبيرة بين القبائل كما مهدت أمام المصالحة وقضايا الثأر, وساعدت في ترسيخ المعاهدات والمواثيق وتلك جوانب إنسانية تستحق أن يخلدها التاريخ, وتصاغ بماء الذهب.من جهة أخرى كان الزامل بكلماته الحماسية عاملاٍ هاماٍ في استنهاض الهمم للذود عن الحمى والدفاع عن الوطن.إذاٍ, فالزامل كان حاضراٍ في كل ظرف وحالة, مما أظهر عدداٍ من أنواع الزوامل على أساس أغراضها التي تؤديها, فنجد زوامل الحرب, الزوامل السياسية, زوامل الترحيب,الزوامل الثورية, زوامل الرثاء, وزوامل الهجاء, والهجر, وكذا زوامل الدعابة, والزوامل الاجتماعية, والوطنية. وأنواعا عديدة يفرضها الظرف والحدث.والقول بـ»كان» له مبررات يحكيها واقع اليوم وحتى لا يبدو ظلماٍ القول بأن الزامل انقرض فإن كثيراٍ من المتابعين يرون أن تزايد الهجرة الداخلية من القرى إلى المدن سبب رئيسي لقلة تداول هذا الفن الشعري المهم.كما أن للتطور الثقافي والاجتماعي والذي قلل من حدة التعصب للقبيلة وكذلك انشغال الناس بهموم الحياة وتطور التقنيات الاحتفائية إن جاز القول جعل الزامل أقل إيقاعاٍ في المناسبات.
فلم تعد الزوامل إلا مجرد تحميس مـــعنوي وامتداد لتقليد تضاءلت طقوسه غير أن كثيراٍ من شعرائه «المزملين» ما يزالون على قيد الحياة ولهم نتاج شعري يواكب الجديد..