تاريخ الثورة حتى الآن.. وجهات نظر شخصية
صراع الأجنحة المختلفة تسبب في حجب بعض الوثائق
الوثائق المتوفرة تحتاج إلى دراسة وبحث دقيق
< ان قضية تدوين الأحداث التاريخية تعتبر مشكلة تواجه الباحثين والمهتمين بتلك الأحداث ومهما بذل من مجهود في هذا الجانب فلن نستطيع أن نجزم بأننا نجحنا في ذلك , وسوف يظل الغموض يعتري الحدث الذي يتم تناوله ,وذلك لوجود صعوبات تعرقل الإحاطة بكافة جوانبه ومعرفة المشاركين فيه وتدوين مجرياته نظرا لاختلاف الروايات وبعد زمن الحدث وفقدان الوثائق الأصلية والرسمية, ولكن يمكن الاقتراب من حقيقة أي حدث إذا توفر له شرطان أساسيانالأول هو الحصول على جميع الوثائق الأصلية والرسمية التي تتعلق بالحدث, والأخر تقديم دراسات علمية وأكاديمية تتناول الحدث من زوايا مختلفة وتناقش مضمونه من خلال الوثائق المتعلقة به وروايات صانعيه.
وثورة 26 سبتمبر كحدث تاريخي ينطبق عليها ما سبق, وإذا كنا نرغب بمعرفة هل تم استكمال تدوين أحداثها أم لا ¿علينا أن نتناول قضية تدوين أحداث ثورة 26 سبتمبر من خلال الشروط المذكورة.
أسباب ضياع الوثائق
أن قضية وثائق الثورة وتوثيقها تعتبر من القضايا الشائكة التي تظهر أمامنا كلما تحدثنا عن ثورة 26 سبتمبر سواء قبل قيامها أو بعد ذلك, فقبل الثورة كان المشاركون فيها من أعضاء تنظيم الضباط الأحرار يبررون عدم وجود وثائق تتعلق بالإعداد لقيام الثورة بأن الخوف من أن يؤدي انكشاف أمرهم ومعرفة الإمام بما يجهزون له إلى إجهاض الثورة والقبض عليهم هو السبب الذي كان يدفعهم إلى التخلص من أي دليل قد يتسبب بفشل مهمتهم, ونتيجة لذلك لم تصل إلينا أي وثيقة تتعلق بمرحلة الاعداد والتجهيز للثورة قبل قيامها إلا ماندر.
أما بعد الثورة فقد وجدت الكثير من الوثائق التي تتعلق بالأحداث التي وقعت في تلك الفترة, ولكن معظمها لم تصل إلى الجهات المختصة مثل المركز الوطني للوثائق أو مركز التوثيق العسكري وذلك لأسباب عديدة نستعرض في ما يلي بعضاٍ منها:
– عدم استقرار الأوضاع في البلاد بعد الثورة نتيجة ظهور جبهات عديدة تعمل على إجهاض الثورة وخروج الثوار إلى تلك الجبهات لقيادة معارك الدفاع عن الثورة وأصبحت الأولوية أمام الجميع حمايتها والدفاع عنها ونتيجة لذلك اهملت الوثائق التي تتعلق بما كان يجري ولم يتم جمعها.
– في العهد الإمامي كان المسئول وكذلك الموظف يشعر بان أي وثيقة تتعلق بالعمل الموكل إليه تعتبر ملكا له, واستمر هذا الشعور إلى ما بعد الثورة ولذلك من كان يحصل على أي وثيقة بحكم عمله يعتبرها ملكا له ويأخذها معه عندما يترك العمل ثم يتصرف بها كيفما شاء, ونتيجة لهذا الشعور تحولت وثائق الثورة إلى ملكيات شخصية يظهر منها ما يشاء ويخفي ما لا يحب أن يظهر, وقد شعر عدد من هؤلاء بالمسئولية وبأهمية الوثائق التي بحوزتهم في ما بعد, فسلموها إلى الجهات المختصة.
– التعامل ببساطة مع الإدارة التي تقوم بتسيير أعمال البلاد مما أدى إلى اختلالها وعدم استقرارها في الفترة التي تلت قيام الثورة, فقد كان يتم تغيير الموظفين ونقلهم من إدارة إلى أخرى بعد فترة قصيرة من استلامه للعمل دون أن يتم عمل محضر دور استلام وتسليم مما كان يؤدي إلى ضياع العديد من الوثائق المتعلقة بتلك الأعمال, إضافة إلى التعامل مع التعيينات التي كانت تتم آنذاك بسهولة نظرا لعدم وجود لائحة تنظم ذلك, كما كان البعض يكلف بعمل ما عن طريق التلفون دون إصدار قرار مكتوب, وأحيانا كان يكتفى بسماع القرار من الإذاعة أو من الصحف, وفي هذا المجال لا يوجد أي وثائق رسمية تتعلق بتلك التعيينات ما عدا الصحيفة الرسمية التي كانت تنشر بعض القرارات عندما كانت تصدر في أوقات مختلفة.
– الصراع بين الأجنحة المختلفة سواء الحزبية أو القبلية أو المناطقية أو بين الجناح العسكري والمدني مما كان يتسبب بحجب أو التخلص من بعض الوثائق التي تتعلق بأحداث شارك فيها البعض ولم يشارك فيها البعض الأخر وذلك حتى يتسنى لهم توثيق ذلك الحدث من خلال رؤية معينة, وهذا تسبب بضياع وثائق كثيرة مما أفقدنا القدرة على تتبع المسار الصحيح لتلك الأحداث.
– عدم قيام مجلس قيادة الثورة بتكليف جهة معينة بجمع وثائق الثورة وتدوين الأحداث التي مرت بها في وقتها بحيادية كاملة باعتبارها حدثا عظيما غير مسار التاريخ في اليمن, وهذا كان سيتيح للمعنيين جمع كافة الوثائق المتعلقة بأحداث الثورة بطريقة رسمية قبل تداخل تلك الأحداث, وقيام البعض بالتأثير على اتجاهاتها بعد حدوثها.
إن الأسباب سالفة الذكر حالت دون وصول معظم الوثائق إلى الجهات المختصة, مما ساهم في عرقلة الجهود التي تعمل على توثيق وتدوين أحداث ثورة 26 سبتمبر كما ذكرنا, ولكنها لم تمنع تلك الجهات من الحصول على جزء من الوثائق بطرق مختلفة, حيث تمكن المركز الوطني للوثائق من الحصول على بعض الوثائق المتناثرة من بعض الأشخاص الذين كان لهم دور في أحداث الثورة أو أثناء جمع الوثائق من الجهات الحكومية المختلفة ,وكذلك تمكن مركز التوثيق العسكري من جمع عدد لا باس به من وثائق الثورة وذلك أثناء تنفيذه لمشروع توثيق ادوار عدد من المشاركين في أحداثها , كما تمكنت دائرة التوجيه المعنوي والسياسي من جمع مجموعة من تلك الوثائق خلال الندوات المتعلقة بتوثيق أحداث الثورة التي كانت تقدمها بمناسبة الأعياد الوطنية , وإضافة إلى ذلك فقد صدرت مؤخرا مجموعة من كتب الذكريات والمذكرات الشخصية التي أصدرها عدد من المشاركين في أحداث الثورة, وتعتبر هذه الإصدارات توثيقاٍ للأدوار التي قام بها كْتاب هذه الذكريات, وقد ضمت عدداٍ كبيراٍ من الوثائق التي تتعلق بأحداث الثورة وإن كان بعضها وثائق شخصية إلا أنها هامة نظرا لعدم وجود مثل تلك الوثائق في الجهات المختصة, ولكنها ما زالت تحتاج إلى دراسة وبحث وتدقيق نظرا لأنها كانت محفوظة لدى أشخاص, وتحتوي هذه الكتب على روايات يوجد فيها اختلاف مع كتابات أخرى وأحيانا تكون الروايات متناقضة, وبطبيعة المذكرات الشخصية فهي تتمحور حول شخصية كاتبها وتتناول الأحداث التي شارك فيها أو عايشها ويغفل أحداثا لم يتسن له معرفة تفاصيلها.
مسؤولية أكاديمية
ولعل الدراسات الأكاديمية والعلمية التي تتناول أحداث ثورة 26 سبتمبر بمنهجية علمية تاريخية شرط هام لتوضيح مجريات تلك الأحداث وتدوينها, ورغم وجود عدد محدد من تلك الدراسات التي اهتمت بما حدث إلا أن تلك الأحداث مازالت في حاجة ماسة لدراسات أخرى تتناول ما جرى من زوايا مختلفة, فإذا نظرنا إلى الثورة الفرنسية التي مر على حدوثها ما يقارب الثلاثمائة عام إلا أن أحداثها مازالت خاضعة للدراسة والبحث ومع الوقت تتمكن هذه الدراسات من كشف حقائق جديدة, فما بال ثورة اليمن التي لم تتوفر من وثائقها إلا أعداد محدودة يمكن ان تصل من وجهة نظري إلى 20 % أذا أخذنا الإصدارات الأخيرة في الحسبان, ولذلك يجب على الجهات العلمية أن تدفع طلاب الدراسات العليا ( ماجستير – دكتوراه) في أقسام التاريخ في الجامعات اليمنية المختلفة لدراسة أحداث ثورة 26 سبتمبر باعتبارها حدثا يهم جميع اليمنيين بمختلف توجهاتهم, ويمكن تقسيم تلك الأحداث بين الباحثين والطلاب في إطار مشروع علمي كبير تتبناه الجهات العلمية المختلفة التابعة للدولة حتى نتمكن من استكمال توضيح الخطوط العريضة لما حدث قبل وأثناء وبعد الثورة من معارك الدفاع عنها وكذا الجهود العسكرية والمدنية لتثبيت قواعدها, وسوف يكون لهؤلاء الباحثين مساهمة في جمع وثائق متعلقة بالحدث قد تكون مخفية أو بحوزة أشخاص أو اسر تعذر على الجهات المختصة الرسمية الوصول إليها, ومهما جمعنا من وثائق فهي لن تفيد التاريخ إلا إذا استعان بها الباحثون في إعداد الدراسات والبحوث المتعلقة بثورة 26 سبتمبر بعد إخضاعها للتدقيق والدراسة, فلن يكتمل توثيق أحداث الثورة إلا من خلال دراسات علمية تعتمد على الوثائق والمصادر الرئيسية.
إن قضية تدوين وتوثيق أحداث ثورة 26 سبتمبر ماتزال في بدايتها وهي في حاجة إلى جهود جبارة لاستكمال ما تبقى من هذا العمل الكبير, وعلى الجهات المختصة والمراكز التعليمية والجامعات اليمنية أن تتعاون في سبيل تحقيق ما نصبو إليه جميعا من توضيح لحقيقة الأحداث التي جرت أثناء الثورة المباركة التي غيرت مجرى التاريخ, وانه من المعيب علينا في ظل وجود الجهات المذكورة أن لا نهتم وان لا نساهم في تدوين وتوثيق أحداث ثورة 26 سبتمبر من خلال تنفيذ عمل علمي تحت إشراف الدولة وبتمويل منها, وفي اليمن يوجد أساتذة وباحثون مشهود لهم بالكفاءة والقدرة على تنفيذ هذا العمل, خاصة وانه قد مر على هذا الحدث العظيم خمسون عاما ونحن مانزال مختلفين على من هو الشخص الذي قرأ بيان الثورة من الإذاعة..>
* أستاذ التاريخ بجامعة صنعاء
تاريخ الثورة حتى الآن.. وجهات نظر شخصية
التصنيفات: حــوارات