شهدت المتغيرات الاقتصادية التي رافقت إعلام الموجة الثالثة انعكاسات على الصعيدين الإعلامي والثقافي إذú كان لافتا على الصعيد الإعلامي أن هذه المتغيرات أدت إلى إزالة الحدود القديمة التي كانت قائمة بين صناعة المشهد والسياسة بين الفراغ والعمل بين الأخبار والمنوعات بين الإعلام والدعاية أي أن المفاهيم والأخلاقيات الإعلامية التي رافقت إعلام الموجه الثانية لم تعد تنسجم مع إعلام الموجة الثالثة وأصبحت التقنيات تعمل في فراغ أخلاقي من أجل ذلك فاقت الإثارة المبتذلة الإعلام الجدي وتفوق الجزئي على المترابط ونتج عن ذلك فقدان الحس التاريخي والانسلاخ عن البيئة وهذا ما لا حظته كاتبة هذه المقالة من خلال تتبع آلية تشكيل بعض البرامج الفضائية العربية التي كانت بغالبيتها قائمة على الإثارة وعلى التفتيت والقفز من فكرة إلى أخرى من دون أي رابط وتكرار المواضيع وحتى الأشخاص وطرائق العمل.
أما على الصعيد الثقافي فراحت مسألة تحديد دور الثقافة والمثقف تزداد صعوبة خصوصا بعدما شهدت هذه الفترة متغيرات سياسية اقتصادية تقنية تجلت بصعود الشركات العابرة للقارات وتعزيز الفردانية من ناحية ثانية تبع ذلك مقولات تبشر بنهاية الايديولوجيات مع العلم بأن هذا القول بحد ذاته هو ايديولوجيا والدليل أن هذه الفترة شهدت ترويجا لما سمي بأيديولوجيا الاتصال القاتلة بالإنسان المتصل وبمجتمع الاتصال كأمتداد طبيعي لنظرية المستهلك الملك المتاح أمامه الاختيار اللامتناهي من كم المعلومات الهائل المعروض أمامه لدرجة الدوران فالغرق وبالترافق مع نسبوية لا مثيل لها.
إنها ايديولوجيا تصف نفسها بالناعمة لا تعتمد الطاقة الملوثة لاضحايا من جرائها ولا أعداء لها عدوها الوحيد الفتور وعدم الاتصال هذه المنظومة الاتصالية الصاعدة بشكل هائل من البديهي ألا تكون أدواتها محايدة مجرد أدوات لنقل الثقافة فالتاريخ يثبت لنا أنه مع كل وسيلة جديدة كانت هناك ثقافة جديدة تتلاءم معها فما الثقافة إلا استجابة متحركة ومتجددة للعالم ولمتغيراته فكيف يتغير الوسيط الحامل لها¿
إن العلاقة التفاعلية القائمة بين الإعلام والثقافة حكمها التجاذب عبر التاريخ بدءاٍ من روسو إلى زولا إلى بورييه أي أنها تراوحت بين استعلاء المثقفين من ناحية ونزولهم من عليائهم من ناحية ثانية مروراٍ بإيجاد مساحات إعلامية فكرية تستقطب الطرفين وتضعهما في موقع الندية (مجلات دورية جادة أو صفحات تفردها الصحافة اليومية للقضايا الفكرية).
إلى أن جاء اليوم الذي أختلت فيه الموازين لمصلحة الصحافيين لأسباب عديدة لا مجال لذكرها هنا بالتفصيل منها ما هو على علاقة بالتحولات الطارئة على المنظومة الاتصالية ككل والتي تميزت بطغيان البعد الوظيفي (خدمة الاقتصاديات) على البعد المعياري (التفاهم والمشاركة) وبالعمل تحت ضغط المنافسة والطلب المحموم على الحصرية. وهذا ما أدى إلى سيادة قوانين السوق وإلى عولمة نماذج الاتصال وإلى جعل الميديا أكثر عرضة للضغوط السياسية والاجتماعية والتقنية فأصبح دورها تالياٍ فرملة التغيير والحفاظ على الأوضاع الراهنة خصوصاٍ بعد أن فرض التلفزيون إيقاعه على جميع الوسائل (المباشرة السرعة الآنية).. كما أن لهذه المنظومة الاتصالية الجديدة رؤية جديدة للإنسان فهي تنظر إليه ككائن من دون داخل يعيش في مجتمع من دون سر لا يستمد طاقته ومادته الحية من صفاته الداخلية الآتية من أعماق نفسه وإنما من مقدرته على الاتصال. باختصار استدعت هذه القفزة الهائلة للتقنية المترافقة مع نمط إعلامي جديد ومع نظرة جديدة للمتلقي تشكيلة بنيوية تشكيلة بنيوية جديدة للجسم الصحفي تميزت بتزايد اعداد الصحافيين الحاملين للشهادات العليا ممن بدأوا يطرحون أنفسهم كمثقفين متسلحين بعامل الشهرة متدخلين في النقاش العام على حساب المثقفين الأمر الذي أفضى إلى ثقافة جديدة تعمل تحت دكتاتورية الاستغراب والذهول يتفوق فيها النموذج القصصي على النموذج الاستدلالي المنطقي وأصبحت قصة عصرنا تنتمي إلى الميديا التي أربكت حرارة توقيتها الفكر النقدي لدينا فحل الغموض بين الحدث وصورته الفعلية.
بمعنى آخر تمدد الإعلام نحو مجالات أخرى لدرجة المصادرة فهذا المجال الإعلامي بالغموض استطاع أن يدير تنوعه الكبير من خلال مساحة غير محددة فهو يقف على تخوم مجالات عديدة مغلقة جزئياٍ مساحة غنية مشعة تستفيد من أمجاد كل نوع من دون أن تعاني الانغلاق الذي يفرضه التخصص فيصبح من الصعب بالتالي نتيجة انفلاشه الامساك به ومراقبته من الخارج يمسكه فقط النهج الاعلامي المتمثل بأمور عديدة منها: أقل جهد ممكن ملاحظة المرغوب الخطأ المبرر بالمنافسة تسارع الأحداث عدم كفاية الوقت للتحقق والعودة للوراء.
ألا تْسبب هذه الأمور مجتمعة بلبلة واضطراباٍ فكريين للوسط الثقافي خصوصاٍ بعد أن راحت الميديا تبحث عن أنصاف مثقفين من ذوي المقدرة على لعب دور المفكرين إزاء الجمهور المختص ولعب دور المعنيين بالأدب والفكر إزاء الجمهور العام.
وبعد أن خسر المثقف الفعاليات الداعمة له وبعد أن فقدت الآيديولوجيات الكبرى بريقها وبعد أن تكاثر الإعلاميون المثقفون أصبح المثقف يعاني أكثر فأكثر من مشكلة هوية واعتراف اجتماعي فزاد الضغط على الدائرة الثقافية من خلال جذب المثقفين إلى دائرة النجومية منهم من أثر الانكفاء والعزلة فكان نصيبه التهميش ومنهم من جذبته الأضواء فاضطر لترك المسائل التي تهمه وكرس نفسه للمسائل التي تهم الجمهور والجدير أن يفهمها أو الجديرة بإرضائه ولم يعد مهما لديه التحليل والتعمق في الموضوع إنما المهم الظهور والتعبير عن الرأي أي أنه تخلى عن ميزته الأساسية ميزة التغيير وراح يعمل لصالح ما هو عابر وما هو متوافق عليه متحول إلى إعلاموقراطي« على حد قول دوبريه« يعمل ضمن منطق الاختيار الفائق المتولد عن التقاء التقنية وحقوق الإنسان وابتعد عن دعواه الحقيقية لقد بات هناك هوية جديدة للمثقف أملاها منطق الميديا حيث تسود مؤثرات الرأي على مؤثرات المعرفة على حد قول فوكو.
وفي هذا المجال لابد من الإشارة إلى صعوبة تحديد دور الثقافة ودور المثقف خصوصا في ظل التغيرات الحاصلة في السنين الأخيرة والتي تشكل الثورة العلمية والتكنولوجية أبرزها بحيث أحتل الإعلام جزءا مهما من دور الثقافة مستفيدا من التطور الكبير في الأدوات والوسائل السمعية البصرية خصوصا أن طبيعة العصر المعقدة وانعكاساتها على مفهوم الزمن وطريقة التعامل معه اتاحت لهذه الوسائل هامشا كبيرا ومتزايدا على حساب الثقافة بمعناها الذي كان سائدا خلال فترات طويلة سابقة هذا في الوقت الذي تتراجع فيه حقول معرفية أساسية كالفلسفة والعلوم الإنسانية الأخرى بما يحول دون قدرة الثقافة على مواجهة الأسئلة الأساسية لهذا العصر ويؤدي بالتالي إلى الحد من التأثير الذي يمكن أن تمارسه الثقافة ومن الدور الذي يمكن أن يلعبه المثقف.
وكان أيضا من انعكاس هذه المتغيرات تسيد الثقافة الأميركية المعولمة الهادفة للوصول إلى المجتمع الاستهلاكي الشامل الذي يتكون فقط من هذا العرق الجديد من النساء والرجال المستهلكين بنجامين باربر« فالأسواق العالمية القائمة علي الدولار كعملة مشتركة والانكليزية كلغة مشتركة ولدت سلوكات مشابهة في كل مكان سلوكات الحياة الحضرية الكوسموبوليتية أما منتوجات الثقافة العالمية الجديدة فهي صور بقدر ما هي أشكال مادية حيث المظهر »اللوك« أصبح نوعا من الأيديولوجيا تحولت إلى نوع من الفيديلولوجيا نسبة إلى الفيديو هذه القيم الجديدة لا تفرضها الحكومات القمعية ولا الأنظمة التربوية السلطوية إنما هي تبث في الثقافة عبر الأفلام والإعلانات »بنجامان باربر«.
وهنا نطرح أمامنا السؤال الجوهري هل المطلوب من التلفزيون أن يعيد توثيق العلاقات الاجتماعية بعد أن عمل علي تفكيكها هل من مهامه إعطاء معنى »لم يمسك به أبداٍ« للقلق المعاصر هل عليه كي ينجح في المشهدية أن يرفع درجة التأثر والانفعال لأبعد الحدود وأن يتركه في ما بعد يسقط كهبة ريح »هانري مادلان« خصوصا أن الأيديولوجيا المعاصرة للاتصال تدور حول العناوين التالية: الزائل نسيان التاريخ والماضي غياب الصلة الاجتماعية بين الأشياء ارماند ماتولار«.
من الناحية المنطقية إن وضع مضامين الفضائيات في سياقاتها الاجتماعية والثقافية والسياسية سواء أكان على مستوى الإنتاج أم على مستوى التلقي يحيلنا إلى الاستنتاج بأن تقدم الواقع على الأرض ينعكس تقدما على مستوى الفضاء لأن التقدم كما تخبرنا التجارب ليس »فترينات« فضائية على حد تعبير محمد جابر الأنصاري من هنا ضرورة تبين الحد الفاصل بين ما يستطيع الإعلام وما لا يستطيع أن يفعله قد يكون بإمكان الإعلام الإسهام في تفكيك البنى القديمة لكنه لن يستطيع لوحده خلق قيم وبنى جديدة إلا إذا تأسست على أرض الواقع بالتنمية والتربية والتطوير الشامل لبنى المجتمع محمد جابر الأنصاري«.
إن التمعن في واقع ما تنتجه الفضائيات العربية يشي بأمور عديدة منها: عدم تمكن هذه الفضائيات من ايجاد تصور لإنتاج ثقافة عربية متنوعة ومتجددة جل ما أمكنها فعله لغاية الآن أنها أعادت إنتاج التشرذ الثقافي في ظل غياب رؤيا فعلية لما تريده هذه الفورة الفضائية ثانيا عدم التمكن من توفير الشروط الملائمة لإنتاج ثقافة محلية تعبر عن المواطنين بمختلف توجهاتهم وتحرص على التنوع والتعدد داخل هذه الثقافة من دون التفريط بوحدة المجموعة والدليل على ذلك استبعاد الفاعليات الاجتماعية غياب الكلام الدنيوي الصادر عن المجتمع المدني والالتصاق بأهل السلطة والنخب الموالية لها واختلاط أدوار الإعلاميين بالسياسيين.
د. نهوند القادري عيس
أستاذه في كلية الإعلام- الجامعة اللبنانية
