مما لا شك فيه أن المفاهيم والأسس والقناعات والثوابت لا تتكون لدى أي فرد إلا عن طريق التلقي فأصحاب الأفكار والمبادئ وأصحاب الزلات والمساوئ لم تتكون لديهم تلك الأفكار إلا عبر التلقي الناتج عن الاحتكاك بالشخصيات أو الوسائل التي كونت – أخيراٍ – لديهم تلك الأفكار.. في هذه السطور وقفات مع المنابر الإعلامية والدينية ودورها في ذلك..
ورد في الأثر النبوي أن ابن آدم يولد على الفطرة فأبواه ينصرانه أو يهودانه أو يمجسانه.. وذلك عن طريق التربية وغرس الأسس والمفاهيم لديه منذ الصغر.. إضافة إلى اهتمام الأبوين بكل ما يتصل بهذا الطفل ويكون لديه القناعات والمفاهيم منذ الطفولة.. وإنه مما لا شك فيه أن أهم تلك العوامل الخارجية هي وسائل الإعلام المختلفة التي تكون القناعات والمفاهيم والتصورات لدى المتلقي.. وهي التي تعبر عن الحقيقة فتكون للمجتمع وجهات نظر ومبادئ حقيقية.. وهي كذلك.. تعبر عن خلاف الحقائق وتزور الوعي لدى المجتمع لتكون لديه مبادئ مزيفة أيضاٍ..
المنابر الإعلامية
بالنسبة للمنابر الإعلامية فإن لها شأناٍ عظيماٍ خاصة لسعة انتشارها وقوة نفوذها إذ أنها تحل في كل بيت وتحتل الوقت الأكبر من التلقي لدى الجماهير وتناسب جميع الأعمار.
عن تلك الأهمية وعظم المسؤولية لتلك المنابر والسبل الفعالة لنجاح دورها المطلوب يحدثنا الدكتور مهدي الحرازي – محاضر ومقدم برامج في قناة الإيمان – قائلاٍ: المعلوم أنه قد تعددت منابر التوعية في العصر الحديث فلم يعد المسجد هو المكان الوحيد الذي يستطيع العلماء والخطباء والدعاة توعية الناس من خلاله وإنما أصبح جزءاٍ من وسائل التوعية وذلك أن جميع وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة أصبحت تشارك بدور فعال ربما يكون في بعض الأحيان أكثر تأثيراٍ من الوسائل التقليدية القديمة لما يرافقه من وسائل إيضاح تقرب المعلومة إلى الأذهان.
ولما كانت الكلمة مسؤولية عظيمة كان لا بد من الإحساس بعظم تلك المسؤولية وبالتالي لا يجوز أن تعمل تلك الوسائل لمجرد ملء الفراغات بل يجب أن تحقق للمجتمع ما يحتاج إليه وهنا يجب على تلك المنابر الإعلامية أن تدرك مسؤوليتها نحو المجتمع وأن تؤدي دورها على أكمل وجه.. ولن يتحقق ذلك إلا إذا قامت بالآتي:
1- النزول الميداني لمعرفة ما يحتاجه الناس ويفتقرون إلى التوعية فيه.
2- عمل ندوات ولقاءات ومؤتمرات لبحث ما يحتاجه المجتمع من القيم والأخلاق والمعارف.
3- عقد ورش عمل لتشخيص المشاكل والبحث عن أسبابها ودراسة المعالجات والحلول العملية لها.
بعد ذلك الخروج بتوجيهات في شكل مشاريع ثقافية وتربوية ممكنة التنفيذ واقتراح الوسائل المناسبة لتنفيذها.
هذا الدور يجب أن يكون واضحاٍ لدى جميع المنابر الإعلامية وهو ما نطلق عليه ثقافة المشروع أو مشروع الثقافة حتى يتحول عمل تلك المنابر إلى ردات فعل لا ترتقي حتى إلى مستوى إدارة الأزمات.
وبالإضافة إلى الدور السابق يجب على تلك المنابر أن يكون لديها – على الأقل – ثقافة إدارة الأزمات وبالتالي تستطيع أن تقوم بدورها في معالجة الحوادث والمستجدات وذلك من خلال الآليات السابقة التي تتمثل في تحديد المفاهيم وتشخيص المشكلات واقتراح المعالجات والحلول والخروج بتوجيهات عملية للمواجهة.
الثوابت والمنطلقات
لأن الإعلام يتولى التوجيه والإرشاد لعموم المجتمع فإنه يتحمل المسؤولية الكبرى في أداء الأمانة في خطابه الإعلامي ولذلك كان لا بد من ضوابط وثوابت ينطلق منها ذلك الخطاب من المنابر الإعلامية ليكون خطاباٍ فعالاٍ لا تتحكم به الأهواء والمصالح وحدده لنا الحرازي في خمسة نقاط كالتالي:
أولاٍ: مرجعية الكتاب والسنة في كل شأن من شؤون حياتنا وهذا من الثوابت العامة.. ومعرفة العلاقة التي يجب أن تكون بين الحاكم والمحكوم..
ثانياٍ: »وهو متفرع عن الثابت الأول« معرفة العلاقة التي يجب أن تكون بين الحاكم والمحكوم..
ثالثاٍ: حرمة الدماء والأموال والأعراض وبالتالي يجب على ذلك الخطاب أن يراعي تلك الحرمات.
رابعاٍ: الوعي بالوجود والسعي إلى تحقيق المفقود وصولاٍ إلى المنشود.
خامسا: معرفة مسؤولية الكلمة وإدراك أهميتها في تشكيل الوعي الفردي والجمعي.
الواقع والمطلوب
ذلك ما يجب أن يكون ولكن الواقع الذي نعيشه لا يعكس مما يجب إلا الشيء القليل بل إنه في كثير من الأحيان يؤكد على البون الشاسع بين واقع الخطاب الإعلامي الذي يعيشه وبين ما يجب أن يكون.. وهو ما يؤيده الحرازي بقوله: إن المتتبع لكثير من تلك المنابر الإعلامية في هذه الأيام يدرك أن القليل منها هو الذي يعرف دوره ويسعى إلى القيام وأما الكثير منها واقع في المؤثرات والمناكفات الإعلامية والانتصار على الآخر ولو بالوسائل غير المشروعة وذلك من خلال حشد ما يخدم أغراضه وإن كان يتنافى مع الآخر والقيم الإسلامية.
المنابر الدينية
إضافة إلى ذلك فإن المنابر الدينية تعتبر كذلك من أهم وسائل تكوين القناعات وغرس المفاهيم لدى المجتمعات الإسلامية خاصة وهي تستمد قوتها من العاطفة الدينية التي تعيشها المجتمعات الإسلامية ومن النصوص الشرعية التي نفهمها أصلاٍ من تلك المنابر عبر الخطاب الديني الذي نسمعه في خطبة الجمعة على أقل تقدير..
وحتى يكون ذلك الخطاب ذا فعالية إيجابية تعمل على تحقيق القيم الدينية في الفرد والمجتمع لا بد لهذا الخطاب من ملامح واضحة تجعله بعيداٍ عن كل عوامل المصالح الخاصة لأنه خطاب لعامة الناس ويعمل على تحقيق مصالح الناس الأخروية والدينيوية..
تلك الخصائص والملامح يقربها لنا الشيخ أمير بن محمد المدري إمام وخطيب الإيمان بعمران بقوله:
الخطاب الديني بكل قنواته ووسائله وفي طليعتها خطبة الجمعة والدرس والمحاضرة والمقال والدراسة هو خطاب المحاضر لكل عمل بناء ولكل مبادرة خيرة تنفع البلاد والعباد..
إن الخطاب الديني الذي نروم نشره والتوعية به هو انعكاس صحيح وتطابق كامل لمقاصد الدين وغاياته وأهدافه النبيلة والتي هي خير كلها ورحمة كلها ومصلحة كلها وكل فهم للدين بجانب هذه الخصائص هو رد على صاحبه وغير ملزم لأحد من الناس.. فالدين إنما يمثله أجلى وأوضح وأكمل وأجمل تمثيل وتجسيم وتطبيق من جاء به من عندالله. فهو الموعظة المجسمة وهو حجة الله على عباده وهو الأسوة والقدوة وهو الذي في اتباعه مرضاة الله (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) ومن قرأ سيرة رسول الله سيدنا محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم بتدبر وروية وبصيرة بعيداٍ عن النظرة الجزئية المبسطة الحرفية التي لاتعتبر الواقع ولا المقاصد ولا تراعي النوايا.. من يقرأ سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم – الإنسان الكامل – فسيرى رحمة ورفقاٍ وليناٍ وسماحة وسعة صدر وعفواٍ ودفعاٍ بالتي هي أحسن وكل تلك السمات ينبغي أن يعتمد عليها وينطلق منها الخطاب الديني ويعمل جاهداٍ من أجل التطابق معها والوفاء لها..
شمولية الخطاب
ويؤكد (المدري) على أهمية أن يكون الخطاب الديني شاملاٍ لحياة المسلم ضمن حدود النصوص الشرعية والمقاصد لها فيقول: الخطاب الديني المنشود – هو في نصوص الشرع ومقاصده – خطاب ينبذ التعصب والتزمت والانغلاق والتحجر يقاوم الفرقة والفتنة ويحارب كل ما يمكن أن ينال من كرامة الإنسان ويتصادم مع حقوقه الأساسية إن الخطاب الديني يأبى على المؤمن أن يظل في تخلف وتقهقر وضعف ومهانة ومذلة إنه خطاب يدفع إلى تحقيق الخيرية الفعلية لأمة الإسلام (كنتم خير أمة أخرجت للناس) والعزة الفعلية (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين) ولله تتحقق الخيرية بالشعارات والأماني »ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي« ولن تتحقق الخيرية بالمظاهرات والصور »إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى وجوهكم« ولن تتحقق المباهاة يوم القيامة من طرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمة ضعيفة متهالكة متصارعة ترزح تحت نير الجهالة والتخلف والفقر والأمية ولذلك فإن الخطاب الصحيح والإيجابي البناء الذي يرضي الله ورسوله والمؤمنين هو خطاب الدفع إلى الأمام ومعاصرة كل الجهود الخيرية التي تبذل من أجل إسعاد المسلمين السعادة الحقيقية الشاملة الكاملة.. فالخطاب الديني الذي نريده أن يسود وينتشر وتتظافر كل الجهود على إشاعته وإذاعته بكل الوسائل والأساليب ليس هو مهمة الإمام والواعظ والكاتب في مواضيع الدين المختلفة فقط.. بل مهمة الجميع في تكامل وانسجام واتفاق على المرامي والأهداف التي لا يمكن أن تكون إلا واحدة وهي أن نعيش معاٍ في انسجام واحترام متبادل واعتراف بحقوق بعضنا البعض وأن نسعى متكاملين متعاونين من أجل الحفاظ على ما نعتبره – ويعتبره التفكير السليم القويم – مكاسب لا سبيل إلى التفريط فيها فلا نترك أحداٍ فرداٍ أو جماعة – يتهددها.
المعاملات
ويؤكد المدري على أهمية جانب المعاملات في الخطاب الديني قائلاٍ: الخطاب الديني هو الدافع إلى الانخراط بصفة كلية وتلقائية رغبة في الحصول على الأجر والثواب في كل ما من شأنه أن ينفع الناس إذ »أحب العباد إلى الله أنفعهم لعباده« ومجالات الإيمان وشعبه تتعدى العقائد والعبادات إلى المعاملات إذ »الإيمان بضع وستون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان«.
العقيدة
وللعقيدة الإسلامية أهمية كبرى ضمن الخطاب الديني بينها المدري بقوله: ومن هنا فإن الخطاب الديني خطاب وحدوي يقوم على صهر الناس من خلال المفاهيم في بوتقة العقيدة الإسلامية ليكونوا أمة واحدة تربطهم عقيدة الإسلام وهو لا يقبل الارتباط بغير العقيدة الإسلامية واعتبر الروابط الأخرى من أمر الجاهلية وأنها لا تصلح لأن تربط بني الإنسان ببعضهم لأنها روابط منحطة لا تليق بالإنسان قال الله تعالى: (إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون) المؤمنون »52«
فرابطة العقيدة لا تنقطع باختلاف النسب ورابطة النسب تنقطع باختلاف العقيدة.
خطاب التبصير
ويضيف المدري: الخطاب الديني بهذا المعنى وبهذه الخصائص هو خطاب التحرير والتنوير وهو خطاب التبصير والتذكير وهو خطاب جمع الكلمة ووحدة الصف إنه خطاب السماحة والرحمة واللين والدفع بالتي هي أحسن وهو خطاب التسامح والتعايش والسلام والتعاون على البر والتقوى وهو خطاب التوكل الصحيح والأخذ بالأسباب وتغيير ما بالنفس إنه خطاب الأمل والعمل وهو خطاب الرقي والتقدم والتمدن والتحضر..
مسؤولية عامة
وبين المدري دور الجميع في تفعيل الخطاب المسؤول والاعتراف بأهميته فيقول: لقد رسم القرآن منهج الخطاب الديني أو الدعوة الدينية في آية كريمة من السورة المكية حين قال:(أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن) »النحل125«.. فهذه الآية خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ولكل من يتأتى خطابه من الأمة من بعده إذ الدعوة إلى الله أو إلى سبيل الله ليست خاصة بالنبي عليه الصلاة والسلام بل أمته أيضاٍ مطالبة بأن تقوم بدعوته معه وبعده.
وفي هذا يقول القرآن أيضاٍ في مخاطبة الرسول: (قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني) »يوسف 108«
فكل من اتبع محمداٍ صلى الله عليه وسلم ورضي بالله رباٍ وبالإسلام ديناٍ وبمحمداٍ نبياٍ ورسولاٍ هو داعُ إلى الله وداعُ على بصيرة بنص القرآن (أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني) وبهذا كانت الأمة مبعوثة إلى الأمم بما بعث به نبيها فهي تحمل رسالته وتحتضن دعوته كما قال صلى الله عليه وسلم للأمة:(إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين«.
لمن كان له قلب!!
تلك بعض الثوابت والضوابط التي يجب أن تنطلق منها الخطابات والرسائل الدينية والإعلامية ولعل تحقيق ذلك واجب على كل من تصدر لتلك المنابر وليعلم هؤلاء أنهم إن أصابوا نالوا أجر إصابتهم وإن تعمدوا الإساءة.. فهل سيحتملون أوزار كل من تأثر بخطاهم.. ولذلك لا بد أن يعرف كل إعلامي أو خطيب أنه لن يتفوه بكلمة ولن يكتب حرفاٍ إلا ولديه رقيب عتيد يحصي عليه الهمس والنفس..
وسوف يأتي اليوم الذي يحاسب على كل ذلك عاجلاٍ أو آجلاٍ.. فلنتق الله عز وجل.. وقبل البدء بأي عمل فإن على هؤلاء القوم مراجعة حساباتهم والوقوف مع أنفسهم قليلاٍ ليسألوها.. هل ما سوف أتكلم به أو أكتبه أو أبثه يرضي ربي أم يسخطه علي¿
هل هو يخالف أمر الله أم يوافقه¿
هل هو محكم أم متشابه¿
وليعلم بعد ذلك أنه من يعمل مثقال ذرة خيراٍ يره ومن يعمل مثقال ذرة شراٍ يره..
فحاسبوا أنفسكم قبل أن يحاسبكم ربكم والسلام على من اتبع الهدى..
عظمها واقع في المؤثرات والانتصار على الآخر بوسائل غير مشروعة المنابر الإعلامية والدينية.. مسؤوليات وثوابت
التصنيفات: نور على نور