استطلاع/ محرر الصفحة
حين تتناقض الفتاوى من مصدر لآخر في عصر الفضائيات والانترنت.. يقع الناس في حيرة.. أي الفتاوى أحق أن تتبع ومن لم تدركه عناية الله تعالى تجره الفتاوى الموافقة لهواه وإن يعلم أن خلافها هو الحق معللاٍ ذلك بأن هناك من أفتاه بما هو قادم عليه..
في ظل ذلك الشتات واتباع الهوى وتعدد الفتاوى نتساءل.. تْرى.. من له الحق في الإفتاء¿ وما هي خصائص المفتي¿ وممن نأخذ فتوانا¿ وكيف نتعامل مع الاختلاف في الفتوى¿ وهل ينبغي للمسلم أن يستفتي نفسه ويفتيها¿ وهل يحق له انتقاء الفتاوى من المفتين هنا وهناك¿
حتى يستقيم الأمر وتتجلى الحقائق لا بد من تحديد الضوابط للفتوى والصفات التي يجب أن تكون متحققة فيمن يقوم بالإفتاء خاصة وأن المستعدين للإجابة عن الفتاوى كْثر بل قد تجد كثيراٍ من العوام يفتي في أي مسألة حسب ظنه عن تلك الضوابط والصفات يحدثنا الشيخ عمار بن ناشر العريقي المدرس في الكلية العليا للقرآن الكريم فرع عدن والمشرف العام على موقع أضواء الرسالة قائلاٍ:
من ضوابط الفتوى التي يجب أن يلتزم ويتجلى بها المفتي: العلم قال تعالى »ولا تقفْ ما ليس لك به علم« وقال تعالى »قل حرم ربي الفواحش…« إلى قوله تعالى »وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون« ويشمل أن يكون المفتي عالماٍ بما يفتي به عالماٍ بالواقع وعالماٍ بالواجب في هذا الواقع – أي الحكم الشرعي – كما قال ابن القيم.
وأن يحيط علماٍ بالملابسات والقرائن والظروف والأحوال وقد تقرر قاعدة تغير الفتوى بتغير الظروف والأحوال والعادات والأعراف.. وأن يكون عالماٍ بالعواقب والمآلات وعالماٍ بالمصالح والمفاسد ومنهج الموازنة بينهما.
وأن يكون عالماٍ بالنصوص الشرعية من الكتاب والسنة المحتفة بموضوع الفتوى وأن يكون عالماٍ بالقواعد الفقهية وأصول الفقه التي تتضمن منهج التلقي والفهم والاستدلال وعلم المقاصد الشرعية (العلل والحكم والأهداف والأسرار التي لأجلها شرع الحكم« ومن علم الأصول الأدلة التي يحتج بها ومنها معرفة الإجماع والقياس ونحوهما.. ومن المهم أيضاٍ بناء الفروع على الأصول والجزئيات على الكليات.
معرفة الله تعالى
ويضيف العريقي: وقبل هذا كله العلم بالله تعالى واستحضار عظمته وجلاله وهذا العلم الذي يمنع صاحبه من الفتوى على حدود الله ومحارمه ويمنعه من قصد مجاملة السلطان أو الاتباع أو الجماهير بالفتوى كما قال الإمام الغزالي رحمه الله.. ذلك العلم الذي يدرك به خطورة الفتوى وعظيم منزلتها في الدين وخطورة الكذب على رب العالمين والجرأة على اقتحامها بغير حجة ولا برهان قال تعالى »ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون« ويتفرع عن العلم بالله العلم بثوابه وعقابه واستشعار كل ذلك حال الفتوى.. كما يجب أن يتحلى المفتي بالصدق والإخلاص والتقوى والورع والعدالة والأمانة والديانة.
قضايا مصيرية
ولا تنحصر خطورة الفتوى في الأحكام الفقهية فقط بل ربما كان أعظم منها ما يتعلق بالسياسة الشرعية كونها من القضايا المصيرية وتشكل أحياناٍ منعطفات في حياة البلاد أو الأمة فكما لا يجوز للسياسي الخوض في أحكام الفقه بغير علم فالعكس صحيح أيضاٍ لعموم الأدلة المحرمة للكلام بغير علم وهو مقتضى العقل أيضاٍ والأدب والحياء والمروءة مع الله ومع النفس ومع الناس وقواعد ابن القيم المفتي موقعاٍ عن رب العالمين..
وقد جاء في الأحاديث الصحيحة أن من علامات الساعة فشو الجهل ورفع العلم وقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤوساٍ جهالاٍ فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا وهذا هو الواقع للأسف حيث يتورع الكثير عن الكلام في مثل علوم الطب والهندسة بل ما هو أقل منها – بغير علم لكن لا يتورعون عن القول في الأحكام والحلال والحرام بغير علم مع كونه أخطر وربما رجع البعض إلى بعض طلاب العلم وأنصاف الفقهاء في قضايا كبيرة وخطيرة بمجرد حسن الظن أو المنطق أو المظهر أو لمجرد كونه إماماٍ أو خطيباٍ لمسجد أو أستاذ مدرسة أو جامعة..
وفي القضايا العامة والمصيرية ينبغي عدم الاكتفاء بمرجعية العالم الواحد ولكن يعتبر فيها بالمرجعية الجماعية والاجتهاد الجماعي كالمجامع الفقهية لأن (زلة العالم زلة العالم) كما قال بعض السلف وفي الأحاديث أن يد الله مع الجماعة فالجماعة عصمة ورحمة وبركة.
وفي ذلك يحدثنا الأستاذ الدكتور حسن الأهدل أستاذ أصول الفقه والحديث بجامعة صنعاء قائلاٍ: أرجح وأفضل أن تكون الفتوى التي تتعلق بها حياة الأمة والشعوب لا تصدر عن أفراد وإنما تصدر عن جماعة من المفتين وعلماء البلاد يتفقون على ما ترجح لما فيه مصلحة للعباد والبلاد ولا يجب أن تقبل الفتاوى الفردية في هذا الشأن وأنا مع تشكيل هيئة أو جمعية تضم كبار علماء اليمن المشهورين بالعلم والورع والزهد ليبينوا كل مستجد يتعلق بقضايا الأمة المصيرية ويفتوا فيها.. كما أوصي إخواني من أهل العلم بتقوى الله تعالى والحذر من الفتوى الشرعية التي يكاد أن يحدث بسببها أضرار على العباد والبلاد.
الفتاوى الفاشلة
يحدثنا الأهدل عن الأسباب التي تؤدي إلى ظهور الفتاوى التي لا تتصل بالواقع بشيء أو قد تكون فتاوى شاذة ومن تلك الأسباب أن يكون المفتي غير ملم بالقضية ولا بملابساتها ومآلها حتى يعرف المفسدة أو المصلحة على الفتوى خاصة في المجالات المصيرية المتعلقة بالمصالح العامة فعلى المفتي إذا لم يدرك هذه الأمور أن يتوقف وليتق الله لأنه بالفتوى تحصل مفاسد وتترتب على ذلك خلافات بين الأمة الواحدة.. ومن ذلك أن يكون المفتي يريد الفتنة أو يتقرب بتلك الفتوى إلى جهة من الناس وهذا لا يجوز لأن المفتي يوقع عن رب العالمين وعن رسول الله وهي أمانة في عنقه تبرأت منها السماوات والأرض والجبال.. وحرام عليه أن يفتي وهو يعلم بعدم صحة فتواه..
كذلك قد يشتبه الأمر على المفتي بين الحلال والحرام فلا يدري أن هذا الموضوع الذي يفتي فيه حلال أو حرام وقد يكون فيه الشبهه أقرب إلى الحرام فلا يجوز له ذلك الإفتاء..
اختلاف الفتاوى
أما عن سبب اختلاف الفتاوى من شيخ لآخر أو من بلد لآخر وكيف يكون التعامل مع ذلك.. فيقول الأهدل: اختلاف الفتوى في الأمور المتعلقة بأصول الدين لا ينبغي أن فيه التقليد أما اختلاف الفتوى في المسائل الفرعية فإن ذلك يعود لاختلاف المذاهب وذلك لا بأس به ولذلك فإن مذهب المستفتي الجاهل مذهب من يفتيه كما أن على المفتي أن يحرص على الأخذ بالأحوط في الدين.. وأن يأخذ الفتوى من المفتي المؤهل للفتوى من أهل العلم الذين عرفوا مقدار علمه في ما يفتي وأجازوه بذلك أما من لا تعرف ماله بالعلم فلا يجوز له الفتوى.
استفتاء النفس
يعمد الكثير من الناس للعمل بما يناسبهم دون الرجوع إلى أي مرجعية أو مصدر موثوق بل عذرهم في ذلك حديث استفت قلبك.. وهذه مسألة خطيرة فيها نظر خاصة حين تكون تلك القاعدة في كل صغيرة وكبيرة وفي ذلك.
يقول »العريقي«: حديث استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك محله عن تعارض الأدلة واشتباهها وعدم إمكان الجمع بينهما فيتبع الأحوط عن الشبهه وهو مقتضى الكمال والورع لا على سبيل الوجوب والإلزام للنفس أو الناس كما جاء في الحديث الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام أي كاد أن يقع فيها لا أنه وقع فيها حقيقة بدليل ما بعده وهو قوله عليه الصلاة والسلام كالراعي يرعي حول الحمى يوشك أن يقع فيه فالوقوع في الشبهات من باب المكروه ومخالفة الأولى وفي رواية أخرى »أن تدع ما لا بأس به حذرا مما به بأس به«.
وليعلم أن المشتبهات من الأمور النسبية والتي يختلف حكمها عن العلماء باختلاف اجتهاداتهم فما قد يكون محرما عند شخص قد يكون حلالا عند آخر ومشتبها عند ثالث لتعارض الأدلة وكان السلف يأخذون أنفسهم بالعزيمة والشدة ويأخذون الناس بالأخف.. وقال الأمام الثوري رحمه الله: إنما العلم رخصة عن ثقة أما التشدد فيحسنه كل أحد ومقصوده بالثقة أي الثقة في علمه ودينه قالت عائشة رضي الله عنها كما في مسلم ما خْير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما فإن كانا إثما كان أبعد الناس عنه وعليه فلا يعقل أن يرجع المسلم إلى قلبه مطلقا مخالفا الأدلة لأن ذلك من الهوى سواء بالتشديد أو التساهل قال تعالى:»ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله«.. فمقتضى الدين والورع أصلا باتباع الدليل والرجوع إلى أفهام أهل العلم لا للأهواء والوساوس والشهوات التي تخضع للنفسيات والبيئات ونحوها.
إذن فمحل الحديث باب المشتبهات فيرجع عن عدم توفر الأدلة أو تساويها من غير مرجع إلى الأحوط فالأحوط الترك عند تعارض القول بالتحريم والكراهة والفعل عند تعارض القول بالوجوب والاستحباب كل هذا إذا لم يجد مرجع من غير إلزام الناس وتبديعهم وتفسيقهم..
انتقاء الفتاوى
ومن المساوئ أن يحرص البعض على اختيار الفتاوى السهلة التي تناسبه من أي مكان كانت بما يسمى تتبع الرخص وفي ذلك يحدثنا العريقي قائلا: ورد عن جمع من السلف النهي عن تتبع الرخص مثل قول بعضهم عن تتبع الرخص فقد تزندق وقولهم »اجتمع فيه الشِرْ كْلهْ« والمقصود باتباع الرخص من غير دليل شرعي أو قاعدة شرعية ولكن موافقة للأهواء والشهوات هو علاقة ضعف الدين واتباع الهوى كما أنه مخالف لمقتضى العبودية لله تعالى والطاعة لله ورسوله مثل قصد اتباع الأقوال الضعيفة والشاذة والغريبة والمخالفة للأدلة الصريحة والصحيحة والإجماع القطعي اليقيني والقياسي الجلي..
ولكن ليعلم أنه ليس عن اتباع الرخص الأخذ بالأيسر كما قد يفهم البعض إذا دل عليه دليل أو قا عدة فقهية أو قول إمام معتبر بل مقتضى الدين والعلم والورع الأخذ باليسر وعدم التشدد والغلو في الدين قال تعالى: يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر« وقال تعالى: وما جعل عليكم في الدين من حرج« وفي الأحاديث:
– إياكم والغلو.
-لا يشاد الدين أحد إلا غلبه.
– هلك المتنطعون.
فكما ابتليت الأمة بمتبعي الرخص فقد ابتليت بالمتبعين للغلو والتشدد وكل ذلك من الهوى بل الهوى في التشدد أعظم كما قال ابن تيميه رحمه الله في شأن الخوارج.
ومن الغلو جعل الدين كله أحوطيات والتوسع في قاعدة الذريعة وعدم مراعاة تغير الفتوى بتغير الظروف والأحوال وعدم مراعاة باب الموازنات بين المصالح والمفاسد والأولويات واستباق المراحل واتباع منهج الإقصاء والإلغاء واعتبار الرأي الآخر وعذر المخالف في الاجتهاد والسائغ والله أعلم..
نقاط أخيرة
– اختلاف الفتاوى في الأمور الفرعية مقبول ولا ينبغي أن يكون سببا في انتقاص العلماء والشك فيهم..
– اختلاف العلماء في فتاواهم في المسائل الاجتهادية مقبول وعلينا أن نختار الأحوط لديننا وعدم تتبع الرخص.
– حسن الظن في العلماء واجب فهم ورثة الأنبياء وفتاواهم مبنية على كثير من الأسس التي لا ينظر إليها العامة.
– وجود هيئة مكونة من خيار العلماء وزهادهم للإفتاء في الأمور المتعلقة بالأمة مطلب هام..
ضوابط
أما الدكتور صالح صواب أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة صنعاء فيؤكد على أهمية الفتوى والالتزام بضوابطها قائلا: إن للفتوى أهمية كبيرة يغفل عنها كثير من المسلمين فالفتوى تبليغ عن الله تعالى وإخبار عنه وبيان ما أحله الله تعالى وما حرمه وما أوجبه وألزم به وما نهى عنه والفتوى تفرق بين الحلال والحرام بين النكاح والسفاح بين القتل والقصاص بين السحت والمال الحلال كل ذلك ناتج عن الفتوى.
ولا بد للفتوى من ضوابط منها:
1- أن يكون المفتي عالما بالنصوص الشرعية وأقوال العلماء في ذلك.
2- أن يكون المفتي تقيا ورعا فلا تقبل فتوى الفاسق المرتكب للكبائر سواء كانت في العبادات أو المعاملات أو غيرها.
3- أن يعتمد على مصادر التشريع القران والسنة واجماع الأمة وليس على الاجتهاد المبني على الهوى.
4- أن يجمع بين النصوص الشرعية المختلفة فلا يأخذ بنص دون الآخر وهذا هو سبب التطرف الذي وقع فيه كثير من أبناء المسلمين سواء في جانب الإفراط أو التفريط وسبب ذلك أن كلا منهم يأخذ بنص دون سواه فيقع في هذا المنزلق ونجد تعارضا وتضاربا وتناقضا بين الفتوى لهذا السبب ولو أن المفتي أخذ بجميع النصوص لاستطاع التعامل معها والعمل بها جميعا دونما تناقض أو اختلاف.
5- ألاِ يكون المفتي سطحيا يغفل عن حقائق الأمور وتنطلي عليه الأكاذيب وإنما يجب أن يكون ملما بالواقع عارفا بخفايا الأمور قادرا على التمييز بين المصلحة والمفسدة.
6- أن يتجرد عن التبعية لحاكم أو حزب أو جماعة فإن الدفاع عن هيئة ما بهدف الدفاع عنها يجعله يبحث عن الأدلة التي تؤيد هذا وتعارض الآخر وهذا بسبب التبعية والعصبية.
7- أن يتجرد عن الهوى والمصلحة الشخصية سواء كانت مالا أو جاها أو سمعة أو انتقاما من شخص أوجهة ما والله عز وجل يقول » ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا«.
ويقول صواب: إن كان المستفتي قادرا على التمييز بين الأدلة والنظر فيها وجب أن يأخذ بما يتبين له رجحانه لأن العمل بالفتوى عبادة لله تعالى فمن رأى حكما من الأحكام حقا وجب أن يعمل به وكل يتعبد الله تعالى بما يعتقده.
وإن لم يكن المستفتي من القادرين على التمييز بين الراجح والمرجوح وبين الدليل القوي والضعيف وجب أن ينظر إلى المفتي وورعه وزهده وتقواه وسيرته العلمية والعملية فإن هذه شواهد وقرائن يستدل بها على المصيب من المخطىء والتمييز بين الطالب الحق وبين من يحاول تضليل الناس والعدالة أمر مطلوب وعلينا اتباع العدول الصادقين وعدم الالتفات إلى العصاة أو عدم العدول أو الذين يمارسون أعمالا محرمة أو يأكلون أموال الناس بالباطل ونحو ذلك.
فإن كان يظن بأن هؤلاء المفتين على اختلاف فتواهم أهل خير وصلاح وتقوى جاز له أن يأخذ بفتوى من استفتاه على ألا يتخير الإنسان ما يعجبه من الفتاوى بل ينبغي له الأخذ بالاحتياط فإن الأولى البعد عن الشبهات لقول النبي صلى الله عليه وسلم: »فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام«.
هذا هو الأولى..