في مقالته المنشورة في العدد الأخير من مجلة العربي تحدث الدكتور سليمان العسكري رئيس تحرير المجلة في باب حديث الشهر عن واقع الإعلام العربي المرئي والمسموع والمطبوع وكيف أضحى معظم مكونات هذا الإعلام أصفر وإليكم بعض ما أورده العسكري في مقالته..
شاع مصطلح »الصحافة الصفراء« في آواخر القرن التاسع عشر عندما دارت رحى الحرب الإعلامية بين عملاقي الصحافة الأميركيين جوزيف بوليتزر صاحب »نيويورك وورلد« وويليام راندولف هيرست مالك »نيويورك جورنال« واتهم النقاد جريدتيهما بالإثارة الكاذبة بحثاٍ عن زيادة التوزيع وكانت الجريدتان قد اتفقتا – بالمصادفة – على طباعة رسوم مسلسلة بطلها »الفتى الأصفر« مما جعل لقب الصحافة الصفراء تلتصق بمملكتي بوليتزر وهيرست ومن ثم تطلق لاحقاٍ على كل صحيفة لا تقدم سوى الأخبار غير المدروسة تحت عناوين لافتة ومبالغات كاذبة ومشاحنات مفتعلة بطريقة غير مهنية بل ولا أخلاقية أحياناٍ وإذا كان ذلك الصراع الأصفر قد بلغ ذروته في العام 1898م صحفياٍ فإن إعلام عصرنا في الألفية الثالثة وبوسائطه الكثيرة يستحق أن يلقِب بالإعلام الأصفر فلم تعد الصحف وحدها هي الصفراء بل أصبح لدينا قنوات صفراء ومواقع الكترونية صفراء وإذاعات صفراء وفرق صفراء من الإعلاميين الذين أهانوا المهنة من أجل حفنة من المكاسب الانية وكانت ضحية ذلك كله الثقافة الرصينة التي غابت أو كادت أن تختفي من قلب وسائطنا الإعلامية في العالم العربي.
اطلعنا منذ أيام في البريد الإلكتروني على لقطات مصوِرة مسجلة لجمهور عريض في الشارع العربي يْسألون فيها عن معلومات أولية في الجغرافيا والتاريخ واللغة والتراجم والفن والأدب كان كل سؤال يمر على كل القطاعات العمرية وخاصة الشباب فلا تجد لديهم إجابة صحيحة إلا في أمر وحيد: معرفة أغنيات مطربة صاعدة أو أغاني مغنُ شهير!
لم يكن لدى هؤلاء من مصدر للمعرفة سوى الإعلام العربي الذي كرس شاشات قنواته وصفحات جرائده وأثير إذاعاته لإشاعة ذلك النوع الجديد من الغناء وسمح لتلك الوسائط الإعلامية بأن تستنسخ جيلاٍ لا يعرف عن وطنه شيئاٍ مهماٍ ولا تكاد ذاكرته تحتفظ بمحتوى ذي قيمة فأصبح جيلاٍ مشوه المعرفة يملأ أوانيه من بحر لا تْستساغ مياهه.
قنوات الظلام الدامس!
تكاثرت القنوات التلفزيونية التي يطلقها العرب كثرة كغثاء السيل تتنافس في ما بينها لجذب جمهور كبير من المتطلعين قبل عامين اقترب عدد قنوات التلفزيون الفضائية المجانية في العالم العربي إلى نحو خمسمائة قناة يْبث أكثر من 80٪ منها باللغة العربية والقنوات المملوكة للقطاع الخاص تستحوذ على الحصة الأكبر بين القنوات الفضائية تليها القنوات التي تبث البرامج العامة والمملوكة لجهات حكومية حيث تشكل هذه القنوات 13 . 3٪ منها ولكن في العام الماضي ارتفع هذا الرقم إلى 696 قناة حسب ما أعلنه اتحاد إذاعات الدول العربية تبثها 398 هيئة منها 26 هيئة حكومية 372 هيئة خاصة على 17 قمراٍ اصطناعياٍ منها »عرب سات« و»نايل سات« و»نور سات« و»يوروسات« بالإضافة إلى الباقة العربية الموحدة وتشتمل الشبكات الحكومية على 97 قناة منها 49 جامعة و48 متخصصة أي بزيادة بنسبة 28٪ عن تقرير 2007 – 2008م وتضم الشبكات الخاصة 599 قناة منها 161 قناة جامعة و438 قناة متخصصة أي بزيادة بنسبة 40٪.
وسط هذا الفضاء المزدحم تتفرد القنوات التي تهتم بالأغاني والمنوعات بأعلى نسبة من مجموع القنوات الفضائية المتخصصة في البث الفضائي العربي إذ يبلغ عددها 115 قناة أي بنسبة 23 . 4٪ ويستأثر قطاع الدراما من سينما ومسلسلات بنسبة 13 . 8٪ فيما وصل عدد القنوات الرياضية إلى 56 قناة من مجموع القنوات المتخصصة أي بنسبة 11 . 4٪ وبلغ عدد القنوات الفضائية الإخبارية 34 قناة أي بنسبة 70٪ في حين بلغ عدد القنوات الدينية والعقائدية 39 قناة أي بنسبة 8٪ وتستخدم القنوات الفضائية العربية لغات عدة منها العربية بنسبة 74٪(515 قناة) والإنجليزية بنسبة 20٪(142 قناة) والفرنسية 2٪ والهندية (14قناة) والأمازيغية (4قنوات) والإسبانية (3قنوات) والفارسية (قناتان) وقناة واحدة لكل من الأوردو والماليزية والكردية والتركمانية والعبرية!
في خضم ذلك كله لا يتعدى حضور القنوات العربية الثقافية المتخصصة أصابع اليد الواحدة ومعظمها استنساخ لقنوات عالمية تقدم فيضاٍ من الشرائط التسجيلية لمعالم البلدان وعالم الحيوان وكوارث الطبيعة وتراجم أعلام الغرب ونادراٍ ما تقدم هذه القنوات الثقافية المتخصصة برامج تنتجها محلياٍ وفق معايير إشاعة الثقافة الوطنية الجادة.
كما أن معظم هذه القنوات تتحول يوماٍ بعد آخر لتقف مع القنوات العامة على عتبة التنافس لجذب جمهور المتلقين دون أن تسعى للارتقاء بذائقتهم وعدا عن ذلك فإن البرامج الثقافية المتخصصة التي تبث على معظم القنوات العامة ليست في مجملها سوى حوار مع ضيف تفاجئه سذاجة الأسئلة وجهل المحاور ورداءة الإعداد.
المحصلة أن هذه القنوات الكثيرة التي كان من المفترض أن تمثل عاملاٍ مؤثراٍ للتنوير ووسيطاٍ إعلامياٍ للاستنارة تجسد مصابيح مطفأة في ظلام ليل الجهل الدامس.
بل أن القنوات الدينية التي باتت تفتح شاشاتها لمدعي الإفتاء وما أجهلهم لا يستوفي كثيرهم شروط الإفتاء التي نصت عليها أدبيات الشرائع فتحولت هذه الساحات إلى ضرب من الغيبيات والخرافة وشيء من التغييب وكثير من الشعوذة فضلاٍ عن تبنيها لمسالك التناحر وإثارة النعرات الطائفية الدينية بدلاٍ من الحوار.
حتى القنوات الموسيقية المتخصصة نجدها قد طمست تراثنا الموسيقي في سبيل الترويج للموسيقى الصاخبة التي لا تنتمي لعائلة الموسيقى العربية قدر انحيازها وتبعيتها للموسيقى الغربية. ونذكر مثالاٍ كيف تراجعت نسبة الأغنيات الوطنية فطبقاٍ للتقرير العربي الثالث للتنمية الثقافية الذي أصدرته مؤسسة الفكر العربي في بيروت العام الماضي لم يجد محررو التقرير سوى 9 أغنيات وطنية من بين 415 أغنية أصدرها العرب في العام 2009م وهو تراجع يعكس شرخا أصاب أعماق المشاعر القومية والوطنية العامة.
إن معضلة إعلامنا تتمثل في تحوله إلى أن يكون إعلاناٍ أكثر منه إعلاماٍ فهو إعلان للسلع الأكثر رواجاٍ حتى ولو لم تكن الأفضل جودة وإعلان للنجوم الأكثر انتشاراٍ حتى لو لم يكونوا الأفضل قيمة وإعلان للحكومات الأقوى سيطرة حتى ولو لم تكن الأفضل ديمقراطية. بات إعلامنا العربي أسيراٍ للإثارة اللفظية الفجة في برامج غاب فيها الحوار العقلاني والأخلاقي مثلما غابت قيم المعرفة وبات البحث عن أرقام حقيقية تؤكد المعلومات التي تنهمر كالسيل أمراٍ عسيراٍ.
لقد مثل الإعلام العربي الخبري والعلمي والتقني تابعاٍ للغرب مما جعل الأمر ينسحب على باقي مناحي الحياة التي خلفت لنا جيلاٍ من التابعين للإعلام الغربي وسط سقوط آليات الإعلام العربي الأصفر لقد خشينا منذ سنوات أن ينزلق إعلامنا العربي إلى مستنقع الثقافة الرخيصة التي تضع نفسها ألعوبة في يدي ثقافة الترفيه وحسب ولكننا اليوم نخشى – وقد وقع فيها الإعلام بالفعل – ألا نستطيع الخروج منها. لكننا لن نقدم توصيات جديدة بل نؤكد على ضرورة فض الأختام من على توصيات قديمة من أجل إعلام ينبذ اللون الأصفر المجانب للحقيقة والمستخف بالعقل من أجل إعلام يتيح لقوس قزح الإعلام الحضور والتأثير للمشاركة في بناء جديد للمتلقي العربي.