شذرات من حوار مع الروائي البير الطيب صالح
الرواية العربية ملأت الفراغ في الخيال العربي!
> أنت معدود بين الروائيين الذين استطاعوا أن يقدموا شيئاٍ متميزا في الرواية العربية- كيف ترى المشهد الروائي العربي في عقد التسعينيات¿
>>إنه كما أرى مشهد عظيم.. ولعلني أعد الرواية العربية بين أعظم الإنجازات في الحياة العربية المعاصرة وإذا أجرينا مقارنة سريعة بينها من جهة وبين الإنجازات الاقتصادية والسياسية وحتى الإعلامية فسوف نجد كفتها هي الراجحة وإذا لم تكن واضحة الرجحان فإنها على أقل تقدير ستبدو موازية لتلك المناشط الحياتية حضورا وتأثيرا.
ولعل من أهم ما فعلته الرواية العربية أنها قامت بملء الفراغات في الخيال العربي وما أكثر الفراغات في هذا الخيال العربي التي تخص تصوره للأمة العربية جغرافيا وبشريا وثقافيا وحضاريا بصوره عامة.
إننا نكرر ونعيد منذ أن استيقظ وعينا أننا أمة عربية مترامية الأطراف..ولكن السؤال يقفز إلى أذهاننا باستمرار: هل نحن أمة عربية على أرض الواقع¿ وهل نحن أسرة واحدة حقا وإذا كان الجواب بالإيجاب فاسمح لي بأن أسالك هل تستطيع.. إذا كنت من أهالي مدينة »حمص« أو »حلب« في سوريا أن تتصور حياة أهلك الذين في »صلالة« بعمان.. أو أشقائك وإخوتك في »مسقط« أو »الأبيض« في السودان أو »أصيلة« في المغرب..¿¿
هذه هي الفراغات القائمة في الخيال العربي التي بدأت الرواية العربية ملأها.. وهي عازمة على المضي في هذا السبيل قد تقول ليِ: إن مثل هذه المهمة يمكن أن يقوم بها الإعلام العربي بكل وسائله المتطورة وإمكاناته الهائلة.. وأقول لك: نعم ولكنه- لسوء الحظ-لم يفعل ذلك بالكفاءة التي أدت بها الرواية هذه المهمة الخطيرة وإلى جانب الرواية في تأدية هذه المهمة تقف بعض الفنون الأخرى وبمناسبة وجودي في مهرجان السينما.. أود أن أعبر عن إعجابي الشديد- في هذا المجال- ببعض الأفلام الوثائقية التي قدمها السينمائيون العرب عن أقطارهم مثل فيلم »الريس جابر« والفيلم اللبناني »أحلام معلقة« الذي جسد تفاصيل المأساة اللبنانية.. كما أعجبتني جدا بعض المشاهد التي تضمنتها الأفلام الروائية التي انتجتها سوريا مثل فيلم »صهيل الجياد« الذي هزني بمشاهده البيئية التي تبرز خصوصية هذا الجزء من الوطن العربي وقد ذكرتني الصورة المنتزعة من صميم الريف السوري بالكثير مما يشبهها في السودان تمام الشبه.
> إذا كان هذا هو أحد الأدوار التي تقوم بها الرواية العربية خدمة للوطن العربي ومجتمعاته فكيف ترى ما وصلت إليه من حيث البناء الروائي¿ لاسيما أن نقادا وكتابا كثيرين يرفعون الصوت بضرورة البحث عن شكل عربي للرواية وهل تؤمن بجدوى مثل هذه الجهود المبذولة لهذه الغاية¿
>> لقد عرف العرب الشكل الروائي بعامة- فهو ليس جديدا عليهم لأنهم هم الذين انتجوا أعظم رواية كتبتها الإنسانيةوهي »ألف ليلة وليلة« هذه الرواية العجيبة التي دونها الوجدان الشعبي العربي على مدى قرون عديدة وأفاد منها الآخرون شيئا كثيرا.
على أن المهم- في نظري- هو أن يكتب الروائي عمله بأمانة شديدة لما يؤمن به ويريد أن يقوله للناس ومتى استطاع أن يفعل ذلك فإن كل شكل من الأشكال الروائية يختاره لموضوعه سيكون رواية حقيقية.. ولا يهم بعد ذلك أن تساءل عن هوية هذا الشكل أو ذاك.. لأن الأشكال جميعها إرث وابتداع إنساني يستطيع الإفادة منها كل كاتب مهما كان انتماؤه الجغرافي أو القومي.
أنا شخصيا لا تشغلني لعبة الشكل.. كما لا تشغلني قضية البحث عن شكل عربي الذين يبحثون عن ذلك غالبا يمثلون أصداء لبعض الصراعات التي تظهر وتختفي من حين لآخر لدى بعض الشعوب إن الفرنسيين على سبيل المثال يميلون باستمرار إلى اللعب في الأشكال حتى غدا هذا الميل جزءا من تراثهم الفني هم أحرار على كل حال ولكنني معني بالمضامين إلى حد أنني لا أجد وقتا للوقوف عند مسائل الشكل التي يسر الآخرين الإصغاء إلى ضجيجها الفارغ وما دمنا وصلنا إلى هذا الحد من إيضاح أهمية المضمون فإنني استطيع أن أقول إن الرواية العربية المعاصرة تمت بصلة ملحوظة إلى الرواية الإنجليزية في القرن التاسع عشر والغريب أن ناقدا انجليزيا كنت أقرأ له منذ أيام قد وجد مثل هذه الصلة بين رواية أميركا اللاتينية والرواية الإنجليزية في القرن التاسع عشر يقول هذا الناقد في الوقت الذي كان فيه كتابنا مشغولين بمعالجة قضايا صغيرة-كانت هذه الرواية الوافدة تذكرنا بقوة- بأعظم إنجازات الروايةالإنجليزية في القرن التاسع عشر.
كذلك أرى السمعة الغالبة على الرواية العربية في هذه المرحلة ولا أجد ضيرا في أن يكتب الروائي أعماله بطريقة السرد التقليدية.. لأن المهم- هنا- هو أن يجد شيئا مهما وعظيما يقوله أو يعالجه.
> ترتفع الأصوات عادة- عن الحديث عن ظواهر الركود والتراجع في ميادين الإبداع كافة- بالشكوى من غياب النقدفكيف تنظر إلى النقد الأدبي العربي في هذه المرحلة¿.. وما طبيعة العلاقة التي تقوم بينكما¿
>>الخوض في قضية النقد مسألة صعبة لأنه نشاط آخر تماما له أصوله وميكانيكيته الخاصة وبالنسبة لي- شخصيا- أعتقد أن علي أن أكتب فحسب دون أن أشغل نفسي برأي الناقدينمع أنني قرأت الكثير من النقد الجيد كما أعتبر نفسي محظوظا في علاقتي مع النقاد أي أنهم كانوا- دائما- طيبين معي.
وأنا حين أقرأ في النقد إنما أفعل ذلك لمتعتي الذهنية ولإيماني بأن النقد الجيد عمل إبداعي مواز للإبداع الروائي وسواء من الأنواع الأدبية لا مجرد تابع لتلك الإبداعات إن النقد حين يكون خلافا- يتجلى إبداعه في مجال التطبيق إذ يتناول الأعمال الأدبية فيجلو لك شيئا في هذا العمل أو ذاك ويكشف لك عن أبعاد لا تخطر على بالك تزيد في متعتك الفنية وتعمق إحساسك بحرارة الحياة في العمل المنقود وإذا كان هناك خلاف بين هؤلاء المبدعين- كتابا ونقادا-واعترف هنا بأن كلمة »المبدعين« هذه تحيرني ولا استطيع أن أجد لها بديلا أفضل منها أقول إن كان ثمة خلاف بين هذين الفريقين فينحصر في أن مزاج النقاد يميل إلى الهدوء والبرودة بينما تحكم مزاج الكتاب الحرارة والوجد الذي يبلغ حدود الذهول وخصوصا في لحظة الكتابة.
إنني اتصور- دائما- الكاتب وهو غاطس في حلم ما واتخيله جالسا على حافة بركة صافية الأديمولكنه منهمك في تعكيرها لأنه يمد أصابعه إلى قاعها ويلمس الطين القابع في قعرها ويحركة باستمرار بل هو لا يكتفي بذلك لأنه يريد أن يحفر في أعماق ذلك الطين نفسه ليتعرف إلى خفاياه.
بينما اتخيل الناقد جالسا بهدوء ينظر بعاطفة مثلجة إلى ما يحدث على سطح هذه البركة..<
شذرات من حوار مع الروائي البير الطيب صالح
التصنيفات: ثقافــة