فـــي ذـرى الطــيب صـــالح
د. جـــــــلال إمـــــــين
> الطيب صالح شخصية ثرية جداٍ لا ينضب عنه الكلام كما أن روايته الشهيرة »موسم الهجرة إلى الشمال« رغم صغر حجمها إلا أنها لا تزال مصدراٍ لا ينضب للأفكار والتحليلات ولكني أريد اليوم أن أتكلم عن جانب واحد من جوانب الطيب صالح وهو موقفه من مشكلة الأصالة والمعاصرة. وقد كتبت في هذا من قبل ولكني أريد الآن أن أنظر إليها من زاوية أخرى.
لم تكن الأصالة والمعاصرة في نظر الطيب صالح مشكلة فكرية فقط بل كانت مشكلة شخصية أيضاٍ نعم إنها مشكلة تواجه بلده السودان وأمته العربية كلها كما تواجه معظم ـ إن لم يكن كل ـ البلاد التي كانت تسمى ببلاد» العالم الثالث« وهي كيف نحاول التوفيق بين حاجتنا المؤكدة واستيراد الأدوات والأفكار اللازمة لنمونا الاقصادي دون أن نخون ثقافتنا وتراثنا وعاداتنا وتقاليدنا التي تربينا عليها ودخلت في تكويننا النفسي والروحي¿
الحل ليس سهلاٍ بل أحياناٍ يخطر بالبال أنه قد يكون مستحيلاٍ إذ أن استيراد الآلات والأفكار من الغرب لا بد أن يكون على حساب التراث والتقاليد مهما تصورنا غير ذلك.
هذه المشكلة كان الطيب صالح قد شعر بها على المستوى الشخصى أيضاٍ. فها هو صبي قروي صغير يترك قريته السودانية إلى العالم المتقدم بأنواره وعلمه وسلعه المبهرة وكذلك عاداته وقيمه المختلفة اختلافاٍ كبيراٍ عما رآه واعتاده في قريته.
الجديد مبهر وبالغ الكفاءة والعقلانية ولكن القديم هو أهلي وموضوع ولادتي وذاكرتي.
كيف يرفض المرء كل هذا النعيم والكفاءة. كالذي نراه في الغرب¿ ولكن كيف يتنكر المرء لقومه ومكونات شخصيته وكل تاريخه¿
لم يجد الطيب صالح الحل سهلاٍ على الإطلاق. بل إني أعتقد أنه ظل حتى وفاته في فبراير 2009 عاجزاٍ عن حل المشكلة لقد عرفته سنوات كثيرة عن قرب فرأيته يعيش معظم وقته في موسم معرض الكتاب ولا يتركها إلا حزيناٍ آسفاٍ. ورأيته في القاهرة وهو يرتدي الزي الأوروبي الذي يرتديه أيضاٍ في أوروبا. ولكني رأيته أيضاٍ وهو يرتدي الزي السوداني الأبيض الجميل بعمامته الرائعة وكأنه يقول لنا ولنفسه إنه لا يرتاح حقيقة ولا يجد نفسه إلا في هذا الزي. إنه يحفظ أبياتاٍ جميلة من الشعر الإنكليزي يقطفها بسهولة وإعجاب ولكنه أيضاٍ يعشق المتنبي عشقاٍ فيقتطب لنا أبياتاٍ جميلة ينطقها نطقاٍ متقناٍ. هذه هي بالضيط المشكلة الأساسية في رواية »موسم الهجرة إلى الشمال« »بل هي في عنوان الرواية نفسه« ولكن لا الهجرة إلى الشمال ولا العودة إلى الجنوب. لا ارتداء الزي الأوروبي ولا ارتدء الزي السوداني حل المشكلة فالأمر أشبه بدخول جرثومة في الجسم أبت أن تغادره وكان تعرضنا جميعاٍ للحضارة الغربية بمثابة استقبالنا لهذه الجرثومة دون أن نعرف خطرها فإذا بها مصدر حيويتنا وتقدمنا في أمور كثيرة ولكنها أيضا مصدر عذابنا المستمر كما كانت مصدر إلهام الطيب صالح ومصدر عذابه في الوقت نفسه.<
فـــي ذـرى الطــيب صـــالح
التصنيفات: ثقافــة